قال الإمام سفيان الثوري: (إنما العلم الرخصة من ثقة ، أما التشديد فيحسنه كل أحد).

التشديد في حقيقته هو الاجتهاد الأسهل وليس الاجتهاد الأفضل

الأحد، 11 ديسمبر 2011

هل هناك حقا لقاء جاد بين الرجال والنساء ويهدف إلي الخير؟


1- المعارضون معذورون في طرح هذا التساؤل فقد غلبهم أمران كلاهما شديد الوطأة , أولهما : تقاليد موروثة لا تعرف غير العزلة الكاملة بين الرجال والنساء والعزلة الكاملة بين المرأة وبين جميع مجالات الحياة خارج البيت.حتي لتمتدح المرأة المسلمة بأنها لا تغادر بيتها غير مرتين , مرة من بيت أبويها إلي بيت زوجها ومرة من بيت زوجها إلي القبر. كما وضعت هذه التقاليد حجبا كثيفة علي المرأة شملت الوجه والصوت والإسم وكل هذه بدعة وانحراف عن الهدي النبوي. وثانيهما : مخالطة عامة شاملة عابثة ماجنة تسود مجتمعات الغرب وبعض القردة المقلدة لهم في مجتمعنا.وهذا فساد وضلال وخروج علي شرع الله.

وتحت ثقل ضغط التقاليد الموروثة من ناحية والانحلال الغربي الفاضح من ناحية يقف هؤلاء الغيورون مشدوهين بين النقيضين وكأنما هي ضربة لازب , إما التمسك بالتقاليد الموروثة حيث العزلة الكاملة وإما الانجراف وراء المجتمع الغربي حيث المخالطة بلا حدود.إن تشدد الآباء وانحلال المحدَثين يندرج تحت ما يمكن أن نسميه "سياسة ردود الأفعال" وإن هذه السياسة تشطح عادة بالإنسان بعيدا عن الجادة وترديه إما إلي الإفراط وإما إلي التفريط.

ومن آثار هذه السياسة الخرقاء أنه لما قال الآباء : كيان المرأة في حيائها وعفتها وشرفها ويجب أن تقر في بيتها لا تغادره حفاظا علي هذا الكيان.قال المحدثون : كيان المرأة في تحقيق شخصيتها المستقلة ويجب أن تخالط الحياة والناس دون قيود حتي ينمو هذا الكيان.ولما قال الآباء : مسئولية المرأة تنحصر بين جدران بيتها لا تتعداه في قليل أو كثير. قال المحدثون : مسئولية المرأة كمسئولية الرجل سواء بسواء وعليها أن تقوم بدور الرجل في جميع مجالات الحياة.

وهكذا ينتقل القوم من إفراط إلي تفريط ويخرجون عن نهج الاعتدال الذي يتسم به ديننا الحنيف.

2- إن هناك بديلا صالحا يغنينا عن تشدد الاباء وتحلُل المحدثين ويخرجنا من سياسة ردود الأفعال الخرقاء , وهو موجود منذ خلق الله الإنسان من ذكر وأنثي ومنذ هدي الله الإنسان إلي أن يستمتع بالحلال ويعف عن الحرام. موجود في كتاب الله نتلوه صباح مساء في لقاء موسي عليه السلام بالمرأتين وتعاونه معهما في سقي الأغنام :

{وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ}

قال ابن عاشور : (وفي إذنه لابنتيه بالسقي دليل على جواز معالجة المرأة أمور مالها وظهورها في مجامع الناس إذا كانت تستر ما يجب ستره فإن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكاه شرعنا ولم يأت من شرعنا ما ينسخه).

وموجود في كل وقائع اللقاء والمشاركة التي تمت علي عهد رسول الله ويبلغ ما ورد منها في صحيحي البخاري ومسلم نحو ثلاثمائة واقعة.

حقا إن المعارضين معذورون بسبب موقف أولئك الذين ضاقوا بالتقاليد الموروثة فنبذوها وبهرتهم تقاليد الغرب فكانوا أسري لها.أي أنهم خرجوا من تقليد إلي تقليد ولم يعودوا إلي الهدي الأول هدي محمد صلي الله عليه وسلم.

3- نحب أن نلفت النظر إلي مرض أطلق عليه من قبل الأستاذ مالك ابن نبي رحمه الله (ذُهان السهولة وذُهان الاستحالة).وأعراض هذا المرض هي الميل إلي تصنيف الأمور بين السهولة المفرطة وبين الاستحالة الكاملة.وكأنه لا مجال للصعب الممكن.والمصابون بهذا المرض يرون أن الاختيار أمامهم ينحصر بين تقليد الآباء وهو سهل علي الصالحين وبين تقليد الغرب وهو سهل علي المتحللين.وإذا حدثتهم عما كان عليه رسول الله وأصحابة رأوا ذلك أمرا مستحيلا وكأنه لا سبيل إلي تطبيق هدي الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم علي حياتنا المعاصرة.ونحن نرجو أن يعافينا الله من هذا المرض حتي نري أن تطبيق هدي الله وإن كان صعبا إلا أنه ممكن بعون من الله أولا ثم بمبادرة من الرواد والمصلحين ثانيا ثم بهمة وعزم من المسلمين ثالثا.

إن البديل الصالح لابد منه ولا يكفي مجرد الإنكار علي المخالطة اللاهية العابثة وهي تسري في مجتمعاتنا سريان النار في الهشيم كما يقولون.ذلك أن الحياة تفرض نفسها ومتطلبات الحياة المعاصرة تفرض أقدارا من مشاركة الرجال ولقائهم , فإذا لم ينزل الغيورون الميدان ويقدموا البديل الصالح أي النموذج الصالح الذي يمكن أن يقتدي به كل مسلم محب للفضيلة وهو اللقاء الجاد الهادف فالغلبة ستكون للتيار الجارف المنحرف.

4- إن التلطف بالناس وأخذهم بالرفق والتساهل معهم فيما يسر الله فيه هو البديل الصالح الذي ينبغي أن نمارسه عمليا حتي يحذو الناس حذوه.وهو يفيد في المجتمعات التي انتشرت فيها المخالطة اللاهية العابثة وخاصة مع أولئك الذين في نفوسهم بقية من خير ويتمنون حياة فاضلة ميسّرة.
ونحسب أن ليس كل من سار في تيار التقليد يحمل الفلسفة الإباحية الغربية,ولكن كثيرين ممن يحملون عاطفة دينية طيبة غلبهم التيار ويحتاجون لمن يمد لهم يد العون لينقذهم , ثم إن البديل الصالح يفيد في المجتمعات المحافظة التي تقاوم تيار التغريب بمجرد تمسكها بالتقاليد الموروثة واستنكارها كل جديد.
ولقد ثبت بالتجربة في بلدان كثيرة عجز هذا الأسلوب عن الوقوف في وجه تيار التغريب الجارف وتبين أنه لابد من موقف جديد يعتمد هدي النبي صلي الله عليه وسلم حتي يقوي علي المقاومة وهذا الموقف إذا ظهر في المجتمعات المحافظة فهو كفيل بأن يقطع الطريق علي المتربصين المفتونين بالغرب.

5- ونقول للغيورين لا سبيل لإدراك معني المشاركة في الحياة الاجتماعية وجدواها إلا إذا راجعنا نظرتنا إلي المرأة , فننظر إليها نظرة رسولنا صلي الله عليه وسلم حيث يقول : (إنما النساء شقائق الرجال) فهي إنسان كريم وعلاقة الرجل بها ليست إطلاقا علاقة بلعبة جنسية , بل علاقة بين إنسان وإنسان يعيشان حياة مشتركة فيها كل عناصر الحياة الكريمة الفاضلة من تصورات وأفكار ومن مشاعر وأحاسيس ومن نشاطات متنوعة اجتماعية واقتصادية وسياسية.وإذا كانت هذه الحياة المشتركة مصحوبة بميل فطري نحو الجنس الآخر فقد وضع الشارع الآداب اللازمة لتصون هذا الميل من الانحراف وتمضي الحياة في طريقها نشطة طاهرة.

6- وخلاصة الأمر أن التقاليد الموروثة ظلمت المرأة وحبستها عن المشاركة في الحياة الاجتماعية وكان ذلك باسم الدين وهو في الحقيقة افتئات علي الدين وتضييع لمصالح شرعية متعددة.
وقد كان العجز عن النظر في المسوغات الشرعية لمشاركة المرأة والقنوات المشروعة لهذه المشاركة سببا في انطلاق الناس في قنوات غير مشروعة أحيانا وغير منضبطة بآداب الشرع أحيانا.وذلك تحت ضغط الحاجة من ناحية وبتأثير الغزو الفكري من ناحية.ومن هنا ينبغي استلهام الشرع واتخاذه سندا لأقدار من مشاركة المرأة حتي نضفي الشرعية علي هذه المشاركة بعد ترشيدها وتسديدها.

*****
من كتاب ((تحرير المرأة في عصر الرسالة))
عبد الحليم أبو شقة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق