قال الإمام سفيان الثوري: (إنما العلم الرخصة من ثقة ، أما التشديد فيحسنه كل أحد).

التشديد في حقيقته هو الاجتهاد الأسهل وليس الاجتهاد الأفضل

الجمعة، 9 ديسمبر 2011

هل المرأة لا تخرج إلا لضرورة ؟!!


أنا طالبةٌ في السنة الثانية من دراستي الجامعيَّة، وبفضل الله متفوِّقة، وأنا أدرس في كليَّة العلوم الطبيَّة التطبيقيَّة، وهي تتألَّف من عدَّة أقسامٍ كالمختبرات الإكلينيكيَّة، والعلاج الطبيعيّ وغيرها، ولا يخلو قسمٌ منها من الاختلاط.
أُصبت بحالةٍ من القلق والتوتُّر والحيرة الشديدة لأنِّي أخاف الإثمَّ أو العقوبة أو الانتكاس أو الفتنة بسبب الاختلاط أثناء الدراسة وبعدها أثناء العمل.
أوَّلا: أريد الاستفسار عن حكم مثل دراستي هذه.. هل هي ضرورةٌ تبيح الاختلاط لأنَّ المجتمع بحاجة ؟


ثانيا: إن كانت محرَّمة فماذا أفعل ؟ هل أترك هذا المجال رغم رغبتي وتفوُّقي فيه ؟ فإن تركته لن تخرج الكافرات من مستشفياتنا فلا يوجد من يحلُّ محلَّهن، وإن تركته فأنا تاركته لغيري، وقد تكون أقلَّ منِّي حشمةً، أو أقلَّ منِّي مراقبةً لله، أو أقلَّ منِّي التزامًا، فكيف أدع المجال لمثل هذه بأن تداوي مرضى المسلمين ؟ وقد تكون هذه أقلَّ منِّي تفوُّقًا وليست كفؤا للعمل في مثل هذا المجال، وإن تركته فلا يوجد ما يُعجبني من المجالات الأخرى، علمًا بأنَّني متضايقةٌ جدًّا من التحويل إلى قسمٍ آخرٍ لما في ذلك من ضياع وقتي في كليَّة العلوم الطبيَّة التطبيقيَّة بلا فائدة، كما أطمئن عندما أرى في المستشفيات نساءً ورجالاً واضحةً عليهم صفات الطاعة والتوبة، فما مصير هؤلاء ؟ ثمَّ أتساءل هل يمكننِّي تجنُّب الاختلاط بقدر الاستطاعة، فبذلك لا تُمسُّ عقيدتي ؟ ولماذا لا أستطيع طلب العلم النافع والارتقاء بأمَّتي في حدود الشرع ؟ فهل تساؤلاتي هذه من وساوس الشيطان الذي يدعو إلى الشرّ، ومن دعوى نفسي الأمَّارة بالسوء ؟

أرجو نصحي وإرشادي إلى ما هو خيرٌ لي في ديني و دنياي، وإنِّي أغبط الطالبات اللاتي سجَّلن في الأقسام المنعزلة من الأساس دون أن يُدخلن أنفسهنَّ في هذه الفتنة والحيرة والكآبة، علمًا بأنِّي كرَّرت صلاة الاستخارة كثيرا، ووالداي يريدان منِّي البقاء في هذه الكليَّة.

المفتي : فضيلة الشيخ د. عبد الحي يوسف
الأستاذ بقسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم


الأخت الكريمة؛


ما أنزل الله تعالى الإسلام بعباراته ومعاملاته لإتعاس الناس وإرباك حياتهم، وإنَّما أنزله لإسعادهم وتيسير حياتهم وترتيبها، وتنظيم صغيرها وكبيرها على أكمل وجهٍ حتى يحسنوا الانتفاع بخيرات الكون والتنعُّم والتمتُّع بمتعه الحلال، يقول تعالى: (طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)، أي ليس للشقاء وإنَّما للسعادة !!
ويقول أيضا: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ ممَّا يجمعون)، فضل الله ورحمته هو شرعه ونظامه ورسله الذين أرسلهم ليهدوا البشر إلى الخير والفرح في الدنيا ثمَّ في الآخرة.

الأخت الكريمة؛

من الذي قال أنَّ المرأة لا تخرج إلا لضرورة ؟ إنَّ معنى الضرورة في الإسلام - والتي تبيح شرب بعض الخمر وأكل بعض الخنزير مثلا - هو الإشراف على الهلاك وعدم وجود أي وسيلةٍ أخرى لحفظ النفس التي أمر الله بحفظها إلا بارتكاب المُحرَّم، ويكون بالقدر الذي يحفظها ولا يزيد.
فهل خلق الله تعالى المرأة لكي لا تخرج إلا إذا كانت ستهلك ؟!! وهو الذي يقول سبحانه: (خلقناكم أزواجًا)، ويقول: (من عمل صالحًا من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينَّه حياةً طيِّبةً ولنجزينَّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)، ورسوله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّما النساء شقائق الرجال) رواه أبو داود وقال الألباني حديثٌ حسن، أي خلقناكم ذكرًا وأنثى، ولكلٍّ صفاتٌ ليكمِّل بعضكم بعضًا فتحسنون الانتفاع بالكون والسعادة فيه.

فالأصل المساواة بين الرجل والمرأة في معظم نظم الإسلام وأخلاقيَّاته، وفي الحساب والعقاب والجنَّة والنار، فلم نسمع مثلاً أنَّ هناك جنَّةٌ خاصَّةٌ بالرجال وأخرى أقلّ درجةً للنساء !! أو أنَّ الله جعل نصف الكرة الأرضيَّة للرجال ونصفها الآخر للنساء، حتى لا يرى بعضهم البعض أو حتى لا يتعاملوا فيما بينهم !! أو أنَّ حساب الرجال يوم القيامة يختلف عن حساب النساء !! وإنَّما لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ ولا لذكرٍ على أنثى إلا بالتقوى، ولكن هناك بعض الاستثناءات التي ليس من العدل أن تتساوى المرأة فيها مع الرجل لطبيعة خلقتها، حيث أنَّها أحيانًا قد تغلِّف العاطفة على العقل حتى يمكنها بهذه الصفة أن تضفي على بيتها ومجتمعها كلِّه حبًّا وحنانًا وتضحيةً وإيثارًا، كما وضَّح ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله(ناقصات عقلٍ ودين) جزءٌ من حديثٍ رواه البخاري، فهذا هو الفهم الصحيح للحديث، ولا يعنى أنَّها أقلّ عقلا، فقد تكون أذكى من الرجل !

ولذلك فلا يمكنها مثلاً القتال بالسلاح إلا إذا انكشف المسلمون فيكون فرضًا عليها على قدر استطاعتها، أو القيام بأعباء رئاسة الدولة كما يُفهم ضمنًا من قوله تعالى: (وليس الذكر كالأنثى)، وكما وضَّح ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (لن يُفلح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة) جزءٌ من حديثٍ رواه البخاري، فذلك في الخلافة فقط أو القضاء عن بعض العلماء، أمَّا غير ذلك من المسئوليَّات فهي تتساوى فيه مع الرجل على حسب كفاءتها وإمكاناتها وقدراتها، كما يقول الإمام ابن حزمٍ أنَّ الإسلام لم يحظر على امرأةٍ تولِّي منصبًا ما حاشا الخلافة العظمى، إنَّ رأي أغلب العلماء في قوله تعالى: (وقرن في بيوتكنّ) أنَّ هذه الآية خاصَّةٌ بنساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقط كتكريمٍ لهنّ، وليست لعموم المسلمين.
قال الإمام ابن حجرٍ في كتابه فتح الباري: قوله تعالى (وقرن في بيوتكنّ) أمرٌ خوطبت به زوجات النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام الشوكاني في كتاب "إرشاد الفحول": والحقُّ أنَّه لا يُقتدى به صلى الله عليه وسلم فيما صرَّح لنا بأنَّه خاصٌّ به كائنًا ما كان إلا بشرعٍ يخصُّنا.
وقال الإمام أبو حامد الغزالي: وما عرف أنَّه خاصيَّةٌ فلا يكون دليلاً في حقِّ غيره.

ولكن بعض العلماء يعمِّمونها على جميع النساء.
قال الإمام القرطبي في تفسيره: معنى الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهنَّ فيه بالمعنى، ثمَّ قال: فيلزمن البيوت، فإن مسَّت الحاجة إلى الخروج، فليكن على تَبذُّلٍ - أي ترك التزيُّن - وتستُّرٍ تامّ.

ولكلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ أن يأخذ بالرأي الذي يناسبه ويناسب ظروفه وأحواله وبيئته، ولكن من أخذ برأيٍ فلا ينكر على من أخذ برأيٍ آخر، بل يظلُّ الحبُّ والودُّ والتعاون وغيره من فروض الإسلام قائمٌ بينهم ليثابوا، وإلا أثموا.. لأنَّها كلُّها آراء علماء ثقات، أفنوا حياتهم في معرفة الأحكام واستنباطها لهداية البشر، واستمدُّوا آرائهم من الإسلام الذي يسمح بتعدُّد هذه الآراء كلِّها حتَّى يظلّ مناسبًا لكلِّ الناس على اختلاف ظروفهم، مناسبٌ لكلِّ العصور.

الأخت الكريمة؛

لقد أباح الإسلام التعامل بين الرجال والنساء، بل أحيانًا يفرضه - أي يُثاب من فعله ويأثم من تركه - إذا كان هناك عملٌ يُعدُّ فرضًا، وسيتوقَّف العمل إذا لم يجتمع فيه جهود الرجال مع النساء، ولذا يفضَّل ترك كلمة اختلاط لأنَّها لم ترد في الشرع، ثمَّ أنَّها غالبًا ما توحي بالفساد لأنَّ الإسلام مع مثاليَّته يمتاز بواقعيَّته، فذلك هو واقع الحياة.. يحتاج إلى تضافر كلِّ الجهود من الذكور والإناث، من أجل الانتفاع بالكون استجابةً لطلب ربهم ذلك، كما يقول تعالى: (هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)، فطلب سبحانه حسن الإعمار بصيغة الجمع، ولم يطلب من الرجال فقط.

لقد كانت النساء على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يخرجن لكلِّ شئون الحياة، ولم ينههنَّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك.. يخرجن للعلم، وللصلاة، وللأعياد، ولقضاء احتياجاتهنَّ كما كانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تحمل النوى على رأسها من أرض الزبير زوجها إلى بيتها، وللجهاد في سبيل الله بما يستطعن كمداواة الجرحى، وإطعام الجوعى، وسقي العطشى، ولعيادة المرضى حتى من الرجال، فقد (عادت أم الدرداء رجلاً من أهل المسجد من الأنصار) أخرجه البخاري، وما شابه ذلك.

لكن كلُّ ذلك التعامل كان بمراعاة الضوابط الشرعيَّة من الطرفين.. كغضِّ البصر، والتزام الزيِّ الشرعيِّ الذي لا يصف ولا يشف وتكون زينته غير ملفتةٍ للأنظار، وعدم الخلوة كأن يكونا منفردين في مكانٍ يمكنهما فيه ارتكاب ما هو محرَّم، والكلام لسببٍ وفيما يفيد والجديَّة فيه وفي المشي والحركة، إضافةً إلى التفاهم والحوار والاستئذان بين المرأة وولي أمرها إن كان لها وليُّ أمرٍ كزوجها أو أبيها أو أخيها الأكبر أو عمها حول أماكن الخروج، ومواعيده، ووسائل الانتقال، ونحو ذلك.

فلا نحوِّل نحن هذه الضوابط إلى موانع بحجَّة الخوف من الأضرار، فهل منع الإسلام مثلاً الكلام خوفًا من الوقوع في الكذب، أو منع زراعة العنب خوفًا من أنَّ قلَّةً ستصنع منه خمرا ؟! إنَّا لو فعلنا ذلك فكأنَّنا نتَّهم الإسلام بالنقصان ونحن نكمله، رغم أنَّ مُنزله - وهو الله عزَّ وجلَّ - اكتفى بهذه الضوابط، ثمَّ إنَّ تربية الإسلام للمسلمين متكاملة، فالذي يتربَّى على حبِّ الله وتقواه، وترتيب الأولويَّات، وتحمُّل المسئوليَّات، ونفع الآخرين، وحبِّ الجنَّة، والخوف من النار، سيضع - في الغالب - التعامل بينه وبين الجنس الآخر في حجمه الطبيعي، فلا يتساهل فيه إلى الحدِّ الذي يوقع في الانشغال عن الإنتاج والفتن والحرام ولا يشدَّد فيه فيؤذي نفسه أو غيره.
ورغم كلّ ما سبق ذكره فالأمر متروكٌ للتقدير الشخصيِّ للمسلم والمسلمة وتقواه ومعرفته بنفسه وقدراته وإمكاناته وتغليب ظنِّه، فمن غلب على ظنِّه، وجرَّب كثيرًا، وربَّى نفسه كثيرًا ورأى أنَّه كلَّما تعامل مع الجنس الآخر - رغم التزامه بكلِّ الضوابط الشرعيَّة - ضعفت نفسه وأحسَّ ميلاً وانشغالاً به، فلمثل هذا أن يقلِّل التعامل قدر الإمكان، ولكن ليحذر أن يقول أنَّ هذا هو الإسلام، وإنَّما يقول أنَّ الإسلام أباحه ولكنَّني أحتاط لعلمي بنفسي.

الأخت الكريمة؛

سيري على بركة الله في دراستك، وارعيها، وتفوَّقي فيها، واحصلي فيها على أعلى الدرجات، فقد أصبح فرضًا عليك الآن هذا لأنَّك قد تصدَّيت له، وقطعت فيه أشواطا، وتثابين إذا أدَّيته، وتأثمين إذا لم تؤدِّيه، وكلُّ ما ذكرتِه في رسالتك صحيح، وهو من التفكير العقليّ المنطقيّ الذي أمرنا الإسلام به، وبالوصول بالعقل إلى أقصى طاقةٍ ممكنةٍ لمعرفة النافع من الضار، كما يفهم ضمنًا من قوله سبحانه مرارا: (أفلا تعقلون)، وإيَّاك أن تقطعي دراستك بعد أن علمت حكم الإسلام، فإنَّ هذا هو الذي من وساوس الشيطان الذي يريد منع المسلم عن الخير، فهل يُعقل - كما ذكرتِ - في الشرع أن تتركي هذا المكان لغير المسلمين يقومون به، وهم المشكوك في أمانتهم وإخلاصهم !!
إنَّك ستجمعين - بإذن الله - ثواب أداء فريضة العلم، وإسقاط هذا الفرض عن المسلمين في هذا التخصُّص، ونفعهم والناس جميعا به، وثواب التزامك بالضوابط الشرعيَّة عند التعامل مع الزملاء.
ولعلَّ زميلاتك اللائي ليس معهنّ زملاء من الذكور أقلّ ثوابًا منك لأنَّهن لا يجاهدن أنفسهنَّ مثل مجاهدتك، ثمَّ ثواب برّ والديك.
وفقك الله وأعانك، ونفع بك الإسلام والمسلمين.
ولك ثوابك العظيم.
ولا تنسنا من صالح دعائك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق