قال الإمام سفيان الثوري: (إنما العلم الرخصة من ثقة ، أما التشديد فيحسنه كل أحد).

التشديد في حقيقته هو الاجتهاد الأسهل وليس الاجتهاد الأفضل

الجمعة، 9 ديسمبر 2011

غلو الخلف في أمر سد الذريعة


إن قاعدة سد الذريعة تعني أن الأمر المباح يصبح مكروها أو حراما إذا كان فعله ذريعة إلي فساد أو فتنة وهي قاعدة في ذاتها محكمة ولكن تطبيقها محل اجتهاد واسع واختلاف كبير.وهنا مضلة أفهام ومزلة أقدام كما يقولون.ومن ينظر في كتب الفقه المتأخرة أو يستعرض تطبيق المسلمين يلحظ بوضوح كم ضلت أفهام وزلت أقدام في تطبيق هذه القاعدة الجليلة حتي أضحت سيفا مسلطَّا علي كثير من الأحكام الشرعية , فصبغت حياة المجتمع المسلم بصبغة مخالفة لما كان عليه الأمر علي عهد النبي صلي الله عليه وسلم .ومن أمثلة هذه الأحكام:


شرع الإسلام للمرأة حضور الجماعة في المسجد ولكن منعت سدا للذريعة
أمر الإسلام المرأة بحضور صلاة العيد ولكن منعت سدا للذريعة
سن الإسلام للإمام أن يجعل درسا خاصا للنساء ولكن منعت سدا للذريعة
أمر الإسلام الخاطب أن يري مخطوبته ولكن منعت سدا للذريعة
أمر الإسلام المرأة أن تطلب العلم الذي يقيم دينها ويقيم دنياها ولكن منعت سدا للذريعة
شرع الإسلام للمرأة أن تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ولكن منعت سدا للذريعة
شرع الإسلام للمرأة أن تبيع وتشتري وتعمل لكسب عيشها (عند عجز العائل أو فقده ) أو تعمل لتعين زوجها ولكن منعت سدا للذريعة
سن الإسلام للمرأة أن تضمد الجرحي وتسقي العطشي في الجهاد ولكن منعت سدا للذريعة
شرع الإسلام للمرأة أن تكشف عن وجهها وكفيها خارج بيتها ولكن منعت سدا للذريعة
سن الإسلام للمرأة أن تلقي الرجال في حدود الآداب الشرعية ولكن منعت سدا للذريعة

وهكذا نتيجة للغلو في تطبيق قاعدة سد الذريعة وضعت قيود وضغوط كثيرة علي حياة المرأة.وقد يكون لأسلافنا بعض مسوغات أملت هذه الاحتياطات , وهذا اجتهادهم لزمانهم.وسواء أصابوا أو أخطأوا في هذا الاجتهاد , فليس هناك اجتهادات بشرية تمضي أبد الدهر وإلا صارت أحكاما دينية قاطعة كتلك التي أمر الله بها.والله أعلم بخلقه , وقد أنزل عليهم ما يصون حياتهم وأعراضهم بشريعته التامة الخالدة.وبتعبير آخر إذا ربطت هذه القيود الاحتياطية في تصور البعض ربطا مباشرا بخلقة الإنسان – كل إنسان وغرائزه الفطرية – فهي هنا افتئات علي الله جل وعلا حيث يقول:{اليوم أكملت لكم دينكم}واتهام لرسوله وهو المبين للكتاب.

وأصحاب هذه القيود الاحتياطية الأبدية يستثنون عهد الرسالة بحجة أنه خير القرون , وأن رجاله ونساءه كانوا علي مستوي رفيع من الخلق , وذلك حتي لا يعارضوا أمر الله وأمر رسوله معارضة مباشرة.وقد نسوا أن أفراد مجتمع المدينة لم يكونوا كلهم مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أو مثل عائشة وأسماء وأم سليم رضي الله عنهن. بل كان في المجتمع فئات مختلفة من منافقين ويهود ومن أعراب وفدوا إلي المدينة كما كان فيه الشباب والشيوخ والأقوياء والضعفاء والعقلاء والسفهاء.ومع ذلك أوجب الشرع ما أوجب وأباح ما أباح في شئون المرأة.

إن وضع القيود المسرفة – بدعوي سد الذريعة – يعتبر هروبا من مواجه الحياة , وإذا كان فريق من الغلاة في العبادة قد اعتزل الناس والحياة هروبا من مواجهة الفتن , وكان حقا عليه أن يواجه فتن الدنيا بعزيمته وتماسك خلقه.فكذلك الغلاة في الاحتياطات قد هربوا أو هرب نساؤهم واعتزلن مجالات الحياة , ففات مجتمع المسلمين خير كثير.وكان واجبا علي الجميع أن يتسلح بالخلق القويم و الشخصية المتماسكة – مع الأخذ بما شرع الله إباحة أو ندبا أو وجوبا أو كراهية أو تحريما - فتنموا شخصية المرأة وتنتج وتبدع سواء داخل الأسرة أو في النشاط الاجتماعي الخيَّر.

أليس الأولي أن نقيم حياتنا ابتداء بتطبيق سنة رسول الله وما تضمنته من قيود معتدله وهي عبارة عن مجموعة من الآداب الحكيمة؟ ثم نضيق ونضع قيود واحتياطات إضافية بناء علي ما تعطيه التجربة من نتائج؟ أم الأولي أن نقيم حياتنا ابتداء علي القيود والاحتياطات المسرفة؟ وما زال البعض في عصرنا يسرف في الأخذ بمبدأ سد ذريعة الفتنة , وهذا يجعله يعطل كثيرا من المباحات ويحولها إلي مكروهات أو محرمات بغير حق.والواجب صيانة المباحات من التشدد الذي يكاد أن يعتبرها من الخبائث بينما هي من الطيبات في نظر الشرع.إن رسول الله يقول :" ألا وإن لكل ملك حمي ألا إن حمي الله في أرضه محارمه ".(رواه البخاري ومسلم) فإذا كان من الفجور الرعي في أرض الله الحرام وكان من الحكمة اجتناب الاقتراب من الحمي , فإنه من السفه والحمق اجتناب الرعي في أرض الله الواسعة الحلال.وإذا كان من وقع في الحرام قد ظلم نفسه , فإن من حرم علي نفسه وعلي الناس الحلال فد ظلم نفسه وظلم الناس.

وهناك موقفان كلاهما خطأ:

الموقف الأول: موقف من يجتنب مجموعة مباحات في مجال لقاء الرجال مع النساء فلا صلاة للمرأة في المسجد ولا استماع للمرأة من رجل عالم سواء في مجالس عامة أو مجالس خاصة بالنساء , ولا تبادل التحية بين الرجال والنساء , و لا تبادل الرجال والنساء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ولا إذن للمرأة بقيادة السيارة. وهو في اجتنابه هذه المباحات لا يقرر أنها حرام أو مكروهة وإنما يكتفي باجتنابها مطلقا ويأنف من ممارستها وفي هذا خطآن.أولهما :خطأ التنزه عن المباح وهو أمر أنكره الرسول علي أصحابه.وثانيهما : خطأ تلبيس الأمر علي النفس وعلي الناس المحيطين به.حيث يلتبس المباح بالمكروه والمحرم.وذلك أن الأنفة من ممارسة المباح توهم مع الزمن أن به شيئا من الخبث الذي ينفر منه المؤمن عادة.وبهذا تنتفي طهارة المباح المقررة في الشريعة ويهدر حكم من أحكام الله.وقد سبق بيان ما قرره علماء الأصول من ضرورة إزالة التباس الأحكام.

الموقف الثاني: موقف من يقرر كراهة أو حرمة تلك المجموعة من المباحات بحجة سد الذريعة وأمن الفتنة دون توضيح لأصل الجواز الشرعي لها وأن الكراهة أو الحرمة طارئة عليها نتيجة ملابسات خاصة عارضة , فإذا زالت هذه الملابسات رجع الأمر للحكم الأصلي وهو الجواز.وخطر هذا الموقف تلبيس حكم الله علي الناس في أمر من أمورهم فيحسبون ما أحله الله في شريعته حراما أو مكروها.هذا من ناحية ومن ناحية أخري ما دام القول بالكراهة أو الحرمة هو من باب سد الذريعة فهو يعني أنه قائم علي اجتهاد من قائله وليس علي نص من كتاب الله أو سنة رسوله.ولذا ينبغي أن يتروي القائل بهذا القول لأنه رأي صاحبه , والرأي يحتمل الصواب والخطأ.كما ينبغي أن يعلن هذا للناس الذين يستفتونه , ولا يكتفي بالحكم بالحظر وكأنه حكم الله القاطع.

أورد ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله:( قال ربيعة لابن شهاب: يا أبا بكر إذا حدثت الناس برأيك فأخبرهم أنه رأيك وإذا حدثت الناس بشيء من السنة فأخبرهم أنه من السنة).

وقال مالك بن أنس: (لم يكن من أمر الناس ولا من مضي من سلفنا ولا أدركت أحدا اقتدي به يقول في شيء هذا حلال وهذا حرام , ما كانوا يجترئون علي ذلك , وإنما كانوا يقولون:نكره هذا ونري هذا حسنا ونتقي هذا ولانري هذا ... الحلال ما أحله الله ورسوله , والحرام ما حرمه الله و رسوله )
وعقب ابن عبد البر علي هذا الخبر فقال: ( معني قول مالك هذا أن ما أخذ من العلم رأيا واستحسانا لم نقل فيه حلال ولا حرام والله أعلم)

ونقول لإخواننا الغيورين علي أعراض المسلمين إن إصدار قرار الحظر العام بدعوي سد الذريعة غالبا ما يفوته استيعاب جميع ظروف الموقف و ما يعتمل فيه من مصالح.كما يفوته دائما استيعاب ظروف جميع الناس وما يكونون عليه من مستويات خلقية متباينة.والشارع في تقرير المباح – وهو ما يكون معه الناس فيه في سعة من أمرهم يفعلون أو يتركون – يراعي اختلاف مصالح الناس وظروفهم فضلا عن تعدد مستوياتهم الخلقية وأحوالهم النفسية.

إن الغلو قد أدي بالغلاة إلي الانحراف عن هدي الله العليم الحكيم , الهدي اللطيف الميسر , وإلي أن يصنعوا من عند أنفسهم قيودا وراء قيود وضغوطا بعد ضغوط ضيقت من حركة المرأة ونشاطها سواء كان نشاطا مباحا أو مندوبا أو واجبا.وحملت الرجل والمرأة معا ألوانا من المشقة والعسر ما أنزل الله بها من سلطان.

وفرق كبير بين حظر لقاء الرجال النساء في ساعة ما أو ظرف ما وذلك لأمن فتنة عارضة ظهرت بوادرها مع إباحة اللقاء في عامة الأحوال لتحقيق المصالح الشرعية , وبين تحريم اللقاء تماما وفي كل الظروف والأحوال بدعوي أمن الفتنة.فالحاجة الأولي حالة سوية شرعية لأنها محافظة علي الأصل الحلال , بل محافظة علي السنة , ويقع المنع والتعطيل لفتنة طارئة تطبيقا لقاعدة سد الذريعة.أما الحالة الثانية فحالة غير سوية وغير شرعية , لأنها تعني أننا عطلنا أمرا حلالا تعطيلا مطلقا , أي حرمناه من عند أنفسنا وكأننا نسخنا حكم الإباحة الذي قرره الشارع.

وأخيرا نسوق كلمات لعالم فاضل كتبها تعليقا علي حديث عبد الله ابن عمر: (سمعت رسول الله يقول :"لاتمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها" فقال بلال بن عبد الله:والله لنمنعهن إذ يتخذنه دغلاً,فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط وقال:أخبرك عن رسول الله وتقول : والله لنمنعهن).

قال عبد الحميد بن باديس-رحمه الله-: ( هذا الذي وقع من بلال كثيرا ما يقع مثله أو نحوه من أهل الجهل والبدعة الذين شبوا عليهما وشاخوا حتي صارت البدعة عندهم سنة والسنة بدعة.فإذا ذكرت لهم الحكم الشرعي بدليله من الكتاب والسنة صدوا ونفروا وأبوا واستكبروا وصارحوا بالمخالفة أو سكتوا وأضمروا الخلاف , وما هذا من شأن المؤمنين , فحذار إذا سمعت حكما شرعيا ونصا قرآنينا أو حديثا صحيحا نبويا أن تقابل بالخلاف , بل انشرح لذلك صدرا ولا يكن في صدرك من حرج مما قضي الله ورسوله وسلم تسليما )
*****
من كتاب ((تحرير المرأة في عصر الرسالة))
عبد الحليم أبو شقة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق