قال الإمام سفيان الثوري: (إنما العلم الرخصة من ثقة ، أما التشديد فيحسنه كل أحد).

التشديد في حقيقته هو الاجتهاد الأسهل وليس الاجتهاد الأفضل

الجمعة، 9 ديسمبر 2011

عوامل الغلو في سد الذريعة


الغفلة عن شروط قاعدة سد الذريعة


هناك شروط ينبغي مراعاتها عند حظر أي مباح سدا للذريعة وهذه الشروط هي:

1- أن يكون إفضاء الوسيلة المباحة للمفسدة غالبا لا نادرا.

2- أن تكون مفسدتها أرجح من مصلحتها وليس مجرد مفسدة مرجوحة



3- أن لا يكون المنع بعد توفر الشرطين تحريما قاطعا , بل هو بين الكراهة والتحريم حسب درجة المفسدة.

4- إذا كانت الوسيلة تفضي إلي مفسدة ولكن مصلحتها أرجح من مفسدتها , فالشريعة لا تبيحها فحسب , بل قد تستحبها أو توجبها حسب درجة المصلحة.

سوء فهم معني فتنة المرأة


الفتنة لها مستويان.أولهما : مستوي الفتنة العابرة التي تعرض للإنسان المسلم فإما أن يغض من بصره ويستعيذ بربه ويمضي لشأنه , وإما أن يكرر النظر أو يحدث نفسه بشئ أو يقارف شيئا من اللمم ثم يسرع بالتوبة.وإما أن يمضي في غفله.ولكن الله برحمته يكفر مثل هذه الذنوب.

أما المستوي الثاني للفتنة وهو الفتنة العارمة المؤدية للزني فوقوعها مع اللقاء المشروع أمر بعيد وإذا وقع فهو شاذ والشاذ لا حكم له.وقد وقع هذا الشاذ علي عهد رسول الله ومع ذلك لم يحرم رسول الله كشف وجه المرأة ولا لقاء الرجال النساء.وإذا وضعنا الأوهام التي نتجت عن سوء فهم معني الفتنة جانبا وتحررنا منها , ثم سعينا لاستجلاء حقيقة الفتنة التي ينبغي الاحتراز منها وسد منافذها , فسنجد أن هذه الفتنة إنما تقع غالبا عند الخروج علي الآداب الشرعية التي شرعها الله وهو العليم بفتنة المرأة.إذن هذه الآداب ما دام واضعها العليم الخبير فهي كفيلة بأمن الفتنة التي يعلمها العليم الخبير. والفتنة هنا هي الفتنة العارمة التي أشرنا إليها , وهي المهلكة والموقعة في الحرام أي الزني ومقدماته وتوابعه من هتك الأعراض وخراب البيوت.

وقد يقولون إن الفتنة العابرة قد تؤدي إلي الفتنة العارمة وهذا حق ولكنه يقع نادرا.بينما من شروط منع المباح سدا للذريعة أن يكون مؤديا للفساد غالبا لا نادرا. وعلي ذلك ينبغي التنبه إلي أمر مهم حتي لا نعطل شرع الله بأهوائنا, ذلك أن الفتنة التي توجب تحريم المباح أو كراهيته لها معايير يلزم مراعاتها.وهذه المعايير يمكن أن نتبينها من سنة رسول الله ثم ما قرره العلماء ونذكر أهمها فيما يأتي:

أولها : ألا تكون الفتنة مجرد نظرات يصوبها رجل أو بعض رجال نحو امرأة ودليلنا علي هذا ما رواه عبد الله بن عباس قال : (( كان الفضل رديف رسول الله فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه وجعل النبي صلي الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلي الشق الآخر... )).وإذا وقع ذلك من الفضل وهو رديف رسول الله فيترجح وقوعه من غيره.ومع ذلك لم يأمر رسول الله المرأة المحرمة لا بالسدل علي وجهها من طرف ثوبها , ولا بالابتعاد عن تجمعات الرجال إنما اكتفي بصرف وجه الفضل.

وثانيها : ألا تكون مجرد كلمات مؤذية يطلقها بعض رجال نحو امرأة ودليلنا علي هذا قوله تعالي : {ذلك أدني أن يعرفن فلا يؤذين} وجاء في تفسير الطبري : ( يقول تعالي ذكره لنبيه صلي الله عليه وسلم : يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين لا تتشبهن بالإماء في لباسهن ... ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن لئلا يعرض لهن فاسق إذا علم أنهن حرائر بأذي من قول )
أي أنه رغم وجود بعض السفهاء والمنافقين في المدينة ورغم وجود البدو القادمين من خارج المدينة دون توافر التربية المحمدية لهم , رغم وجود كل هؤلاء الذين يتوقع منهم كثير من التصرفات الخرقاء التي قد تزيد عن مجرد نظرات خاطئة أو كلمات بذيئة , رغم ذلك لم يصدر الرسول صلي الله عليه وسلم أمرا للمسلمات بستر وجوههن. ولم يضع حاجزا يفصل بين الرجال والنساء في المسجد ولم يضيق علي النساء في الخروج لقضاء مصالحهن. وشواهد المشاركة واللقاء في العصر النبوي خير دليل علي ذلك.

وثالثها : ألا تكون بسبب حادث فردي أو شبه فردي ودليلنا علي هذا أنه حدثت حوادث فردية ولم يصدر الرسول قرارا بالحظر من أجل أمن الفتنة.

• عن ابن مسعود : أن رجلا أصاب من امرأة قبلة ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأنزل الله : {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات } . فقال الرجل : يا رسول الله ، ألي هذا ؟ قال : لجميع أمتي كلهم.(رواه البخاري ومسلم)

• عن جابر بن سمرة قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قصير أشعث ذي عضلات عليه إزار وقد زنى فرده مرتين ثم أمر به فرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نفرنا غازين في سبيل الله تخلف أحدكم ينب نبيب التيس يمنح إحداهن الكُثْبَةَ إن الله لا يمكنى من أحد منهم إلا جعلته نكالا. (رواه مسلم)
ينب نبيب التيس : كناية عن إرادته الوقاع لشدة توقانه إليه.

• عن أبي هريرة وزيد بن خالد قالا: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله فقام خصمه وكان أفقه منه فقال اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي قال قل قال إن ابني كان عَسِيفا على هذا فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم ثم سألت رجالا من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وعلى امرأته الرجم فقال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله جل ذكره المائة شاة والخادم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها .(رواه البخاري ومسلم)
عسيفا : أي أجير ثابت الأجر

الهدي النبوي بعيد كل البعد عن الحذر المفرط والتوجس المسرف من فتنة المرأة. فرسول الله صلي الله عليه وسلم لم يتطير من حوادث معدودة تعكر صفو أمن الفتنة ولا يخلو منها مجتمع بشري. ويكفي إزائها الإنكار ولفت الأنظار إلي خطرها أي يكفي مقاومتها بالتربية والتوجيه فضلا عن توقيع العقوبات الزاجرة علي مرتكبيها , وليس بسن تشريعات جديدة تضيق علي الناس وتحرجهم.

لذا لابد من التفريق بين الضعف البشري العام الذي يعلمه الله العليم تمام العلم ويرعاه الله الحكيم أكمل رعاية وذلك بمجموعة من الآداب اللطيفة التي لا تعنت أحدا رجلا كان أو امرأة ولا تعطل تدفق الحياة النشطة وبين الوهم الذي يغلب علي البعض فيجعلهم يخطئون في فهم معني الفتنة التي أمر الشارع بتجنبها وينبغي أن تسد ذريعتها , فيظنون دائما أن الفتنة تشع وتبرز من مجرد حضور المرأة , وإن كانت متحصنة بجميع الآداب الشرعية , ومن كل ما تأتيه المرأة من حركة وإن كانت بضع خطوات وئيدة , ومن كل ما يصدر عنها من صوت وإن كان بضع كلمات رصينة , وكل ما يظهر من جسدها وإن كان وجهها أو أصبعا من أصابعها.

ويغلبهم الوهم مرة أخري فيجعلهم يحذرون الفاحشة في كل لحظة ويخشون الفضيحة في كل آن.

إن هذا الوهم كثيرا ما دعم بنصوص ضعيفة أو بتأويل فاسد لنصوص صحيحة , وقد حدث نتيجة لذلك أن رسخ في كثير من العقول أن الأصل في الشريعة هو اعتزال المرأة بعيدا عن مجتمعات الرجال , ولا تقربها إلا عند ضرورة أو حاجة ماسة. ومضي هذا الفهم قرونا طويلة حتي أصبح وكأنه بديهية من البديهيات الشرعية. والحقيقة أن النصوص الصحيحة وفي أعلي درجات الصحة تقدم في مجموعها دليلا قطعي الورود قطعي الدلالة علي أن حضور المرأة مجتمع الرجال في حدود الآداب الشرعية الأصل فيه البراءة من الفتنة , ونقصد الفتنة التي حظرها الشارع وحذر منها.وذلك أن الأصل هو مشاركة المرأة في مجالات الحياة الجادة , وإذا كانت مجالات الحياة كثيرا ما يغشاها الرجال فهذا شأن الحياة , يوجد الرجال أحيانا ويغيبوا أحيانا , وعلي المرأة المؤمنة أن تخوض الحياة حضر الرجال أو غابوا. أي أنه ينبغي علي المرأة المؤمنة ألا يشغلها كثيرا وجود الرجال , فوجودهم لا يشجعها علي الحضور , كما أنه لا ينفرها من الحضور.وكذلك ينبغي علي الرجل المؤمن ألا يشغله كثيرا وجود النساء فوجودهن لا يشجعه علي الحضور كما أنه لا ينفره من الحضور.وإذا ما حدث قدر من معاناة الفتنة العابرة فهو أمر فطري قضي الله أن يبتلي به العباد رجالا ونساء , ولا سبيل لاجتنابه.

وأخيرا نحب أن نلفت انتباه إخواننا الغيورين علي أعراض المسلمين إلي أن الإسراف في اجتناب لقاء الرجال النساء يثمر خللا في التصور النظري للفتنة , أي يثمر توهم الفتنة حيث لا فتنة , كما يثمر التوجس البالغ منها قبيل حدوث اللقاء , ثم شدة معاناة الفتنة عند اللقاء.أما الاعتدال في المشاركة واللقاء مع الالتزام بالآداب الشرعية فيثمر الاستقامة في تصور الفتنة كما يثمر الاعتدال في التحرز منها قبيل اللقاء والاعتدال في معاناتها عند اللقاء.

الغيرة المريضة


الغيرة علي العرض نوعان:غيرة فطرية سوية معتدلة تعين علي صيانة العرض وحمايته من الابتذال والاعتداء. وهناك غيرة محظورة لأنها في غير ريبة فهي مسرفة مريضة تعذب وترمي التهم بالباطل, وقد تذهب العقل فيكون الاعتداء علي الأبرياء.وفوق ذلك فهي تعطل الانطلاق النشط في الحياة وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم حيث يقول : (( من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله,فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة,وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة )).(رواه أبو داود)

حقا إن بعض صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم كانت تزيد غيرته نوعا ما ومنهم عمر بن الخطاب والزبير بن العوام. فعن غيرة عمر ورد قوله صلي الله عليه وسلم: (( بينا أنا نائم رأيتني في الجنه فإذا امرأة تتوضأ إلي جانب قصر فقلت:لمن هذا القصر؟قالوا:لعمر.فذكرت غيرته فوليت مدبرا.فبكي عمر وقال أعليك أغار يا رسول الله)).(رواه البخاري ومسلم)
وعن غيرة الزبير ورد قول أسماء بنت أبي بكر : ... جئت يوما والنوي علي رأسي فلقيت رسول الله ومعه نفر من الأنصار فدعاني ثم قال:إخ إخ ليحملني خلفه فاستحييت أن أسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس فعرف رسول الله أني قد استحييت فمضي ...(رواه البخاري ومسلم)

ولكن بفضل الله كانت أوامر الشرع تضبط غيرة هؤلاء الأصحاب.وقد مر بنا كيف كان كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد.فقيل لها :لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ قالت:ومايمنعه أن ينهاني؟ قال يمنعه قول رسول الله صلي الله عليه وسلم : ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)).

ومع انقضاء خير القرون – قرن صحابة رسول الله – بدأ انطلاق الغيرة من عقالها أي من ضوابطها الشرعية. وكسرت الحاجز الذي أقامه الشارع بقوله : ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)) ومنعت النساء من الخروج إلي المساجد رغم أن المسجد – وبخاصة في القرون الأولي – كان مركز الإشعاع العبادي والثقافي والاجتماعي والسياسي.

وإذا كان عمر بن الخطاب قد ضبط غيرته بالنهي الصادر من رسول الله صلي الله عليه وسلم فإن حفيده بلال بن عبد الله بن عمر لم يضبط غيرته - التي كان يغذيها سوء ظنه بالمرأة - ولم يلتزم بهذا النهي وقال: (لنمنعهن) وذلك بدعوي سد الذريعة إذ قال: (إذن يتخذنه دغلا) ولم يقبل عبد الله بن عمر من ابنه هذه الحجة,وردها مؤكدا وجوب الاستمساك بسنة رسول الله صلي الله عليه وسلم.

يتخذنه دَغَلا:أي خداعا يخدعن به أزواجهن.

وكان لابد أن تحتال الغيرة لتجد سندا شرعيا لها وقد وجدته فعلا في دعوي سد الذريعة.وراح القوم يؤيدون دعواهم تارة بالاعتساف في تأويل خبر صحيح مثل قول عائشة رضي الله عنها: ((لو أدرك النبي صلي الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن – وفي رواية مسلم:لمنعهن المسجد – كما منعت نساء بني اسرائيل)).إذ اعتبروا هذا القول وكأنه جاء ناسخا لقول رسول الله: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)).وتارة بنشر أحاديث ضعيفة أو موضوعة تؤكد أنه ما كان يؤم مسجد رسول الله غير العجائز من النساء.
وهناك أقوال لبعض العلماء الأجلاء نلمس فيها نوعا من الإسراف في اتقاء الغيرة وقد ساندوا إسرافهم كما قلنا بآثار ضعيفة أو موضوعة ومخالفة لما ثبت في الأحاديث الصحيحة بل في أعلي درجات الصحة إذ اتفق عليها البخاري ومسلم.ومن ذلك قول أحدهم: (والطريق المغني عن الغيرة أن لا يدخل عليها الرجال.وهي لاتخرج إلي الأسواق.وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم لابنته فاطمة عليها السلام: "أي شيء خير للمرأة؟ قالت: أن لا تري رجلا ولا يراها رجل فضمها إليه وقال: ذرية بعضها من بعض" فاستحسن قولها.وكان أصحاب رسول الله يسدون الكوي والثقب في الحيطان , لئلا تطلع النسوان إلي الرجال.ورأي معاذ امرأته تطلع في الكوة فضربها.ورأي امرأته قد دفعت إلي غلامه تفاحة قد أكلت منها , فضربها.وقال عمر رضي الله عنه: (اعروا النساء يلزمن الحجال) .وإنما قال ذلك لأنهن لا يرغبن في الخروج في الهيئة الرثة وقال: عوِّدوا نسائكم "لا" وكان قد أذن رسول الله للنساء في حضور المسجد , والصواب الآن المنع إلا العجائز.(إحياء علوم الدين)

الحجال:الستر الذي يضرب للمرأة في البيت

ومع توالي القرون وتسرب أقدار من جاهليات البلاد المفتوحة,فضلا عن بقية من الجاهلية العربية , زاد طغيان الغيرة حتي وصل الأمر في بعض المجتمعات المسلمة إلي أن يغار الرجل من مجرد رؤية الناس وجه أمه أو أخته أو زوجته , أو من مجرد سماع صوت إحداهن.بل بلغ الغلو والتطرف إلي درجة أن يأنف الرجل أن يصرح باسم امرأته ويغار من ذكره ولو لحاجة عارضة , ويعتبر ذلك جرحا للعِرْض.

وبدلا من الصدق في تعليل هذه الظاهرة وإسنادها إلي المزاج الشخصي لبعض الرجال وغيرتهم نجد القوم راحوا يسوغون هذا المسلك المسرف تسويغ شرعيا بغير حق.وقالوا إنه من باب صيانة الأعراض وسد ذريعة الفساد!

دعوي فساد الزمان 


يحلو للبعض ترديد الشكوي من فساد الزمان ومن ضعف الأخلاق وانتشار الفسق والفجور وكأنه لم يبق ذرة من خير في قلوب العباد , وأنه ليس في الإمكان أسوأ مما هو كائن , وأن الساعة وشيكة الوقوع وأن بطن الأرض خير من ظهرها. وهكذا يظل هؤلاء ينذرون الناس بالويل والثبور وعظائم الأمور ويبكون علي أطلال الأيام الخوالي حيث صلاح الزمان وقوة الأخلاق وسيادة طاعة العباد لله وكثرة برهم ومزيد فضلهم. ومما يحز في النفس أن هذه الدعوي المسرفة فوق ما تبذره من بذور اليأس في قلوب العباد فتثبطهم عن محاولة الإصلاح وتزهدهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي مدد قوي للإسراف في سد ذريعة الفتنة , فإنه مع كثرة الفساد تزداد الحاجة إلي سد منافذه ولو كانت هذه المنافذ تقع أصلا في دائرة الحلال. ومن طبيعة الغلو في سد الذريعة أنه نهم لا يشبع حتي يأكل الأخضر واليابس , ويظل يطلب المزيد فلا يبقي مجالا صغيرا أو كبيرا من مجالات لقاء النساء الرجال إلا افترسه حتي إذا منع جميع المباح اتجه إلي المندوب ثم إلي الواجب من هذه المجالات فقضي عليه.

فمن المباح الذي صار محظورا سلام الرجال علي النساء وسلام النساء علي الرجال , وشهود النساء صلاة الجماعة في المسجد ومشاركة المرأة الرجال في الزيارة والضيافة وفي العمل المهني. ومن المندوب الذي مُنع طلب النساء العلم من الرجال , ورؤية الخاطب لمن يريد خطبتها , ومودة المرأة الأقارب وذوي الأرحام من الرجال وحين رعايتهم وعيادة مرضاهم ومواساتهم وتعزيتهم. ومن الواجب الذي مُنع أيضا رد النساء السلام علي الرجال , وصلاة العيد , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن طبيعة الغلو كذلك أن ينمو ويشتد عوده مع توالي القرون مصحوبا بدعوي فساد الزمان وهذه بعض الأمثلة :

محادثة المرأة الرجال : كانت سنة النبي صلي الله عليه وسلم محادثة الرجال النساء دون حجاب مع استثناء أمهات المؤمنين رضي الله عنهن حين فرض عليهن الحجاب.

ومع الزمن منع الكلام إلا من وراء حجاب بدعوي فساد الزمان وأن عامة المسلمات أحوج إلي الاحتجاب من أمهات المؤمنين الطاهرات. ومع توالي القرون منع الكلام ولو كان من وراء حجاب بدعوي أن صوت المرأة عورة وفيه فتنة وخاصة مع فساد الزمان وضعف أخلاق الرجال.

صلاة المرأة في المسجد : كانت سنة النبي صلي الله عليه وسلم أن يؤم عدد من النساء المسجد منهن الشابة ومنهن الكبيرة ومنهن العجوز.

وبعد العهد النبوي بزمن يسير ظهر اتجاه عند البعض لمنع النساء المساجد مخالفين في ذلك قول الرسول: (( لاتمنعوا إماء الله مساجد الله )) وقال ولد لعبد الله بن عمر ( لنمنعهن إذن يتخذنه دغلا ) ولقد عقب عالم جليل علي ذلك بقوله : إنما استجرأ الولد علي المخالفة لعلمه بتغير الزمان.

ومع مضي الزمن منعت الشابة والكبيرة التي تشتهي إذ كره لها وكره لزوجها ووليها تمكينها من حضور المسجد ولم يكره من القواعد بدعوي فساد الزمان.

ومع توالي القرون منعت العجوز أيضا لأنها إذا صلت في المسجد ستكشف وجهها من أجل الصلاة فيراها الرجال وقالوا لكل ساقطة لاقطة وخاصة مع فساد الزمان.

خروج المرأة يوم العيد للمصلي : كانت سنة النبي صلي الله عليه وسلم أن تخرج النساء جميعا حتي العواتق الأبكار والحيض للمشاركة في الصلاة والاحتفال بيوم العيد.

ومع الزمن منع العواتق. فعن حفصة وهي من جيل التابعين قالت : ( كنا نمنع عواتقنا أن يخرجن في العيدين ) رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر: وكأنهم كانوا يمنعون العواتق من الخروج لما حدث بعد العصر الأول من الفساد.

ومع توالي القرون منع الشواب وأبيح للعجائز فحسب إذ استحب الخروج للنساء العجائز وغير ذوات الهيئة دون غيرهن.

ومع توالي القرون منع العجائز أيضا بدعوي أن لكل ساقطة لاقطة.

علي أن هناك فرقا كبيرا بين ترديد أولئك شكوي فساد الزمان واتخاذها حجة للغلو في سد الذريعة فضلا عن تثبيطها الهمم عن التوجه للإصلاح , فرق بين هذا وبين قول الرسول : (( لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتي تلقوا ربكم )). في قوله صلي الله عليه وسلم تقرير لسنة من سنن الله في خلقه , وتذكير أهل كل زمان بحمد الله تعالي علي كل حال فإن ما في زمانهم من شر سيأتي زمان بعده شر منه وهذا يعني أنه ما زال في زمانهم بعض الخير وإن قل.وباعتدال الناس في تقدير ما هم فيه من خير وما هم فيه من شر يستقيم تصورهم لواقعهم فإذا كان فيه كثير من الشر ففيه أيضا بعض الخير.وبعض الخير هذا هو مفتاح الأمل أولا وهو عماد الإصلاح ثانيا , فإنه لابد للإصلاح من أفراد خيرين ومن جوانب خيرة في نفوس عامة حتي يقوي الإصلاح ويمضي قدما.أي إن حديث رسول الله يتضمن دعوة المؤمنين إلي أخذ الأهبة لمواجهة الأوضاع المنحرفة بخطة الإصلاح وإلي اجتناب الاستسلام واليأس تحت وطأة الفساد , وذلك مثل من يخبر المسافرين أن في طريقهم المقبل بعض الأخطار والعقبات ليستعدوا لمواجهتها ويحسنوا التصرف بشأنها.

ومما يؤكد وجود الخير في كل زمان أن كل جيل يتغني بالخير الكثير الذي كان عليه جيل الآباء والأجداد في الوقت الذي ينعي فيه زمانه لكثرة الشر والفساد. وقد ورد في فتح الباري خلال شرح حديث : (( يتقارب الزمان وينقص العلم ويلقي الشح وتظهر الفتن ويكثر الهرج..)) قول ابن بطال : ( وجميع ما تضمنه هذا الحديث من الأشراط قد رأيناها عيانا فقد نقص العلم وظهر الجهل وألقي الشح في القلوب وعمت الفتن وكثر القتل)). وقال الحافظ معقبا : الذي يظهر أن الذي شاهده ابن بطال كان منه الكثير مع وجود مقابله ( أي ما يقابله من الخير) والمراد من الحديث استحكام ذلك حتي لا يبقي مما يقابله إلا النادر... والواقع أن الصفات المذكورة وجدت مباديها من عهد الصحابة , ثم صارت تكثر في بعض الأماكن دون بعض.والذي يعقبه قيام الساعة استحكام ذلك كما قررته.

وعلي نهج قول الرسول صدرت كلمات عن رجال أجلاء.

الكلمة الأولي رويت عن أنس بن مالك قال : ( ما أعرف شيء مما كان علي عهد النبي صلي الله عليه وسلم , قيل الصلاة؟ قال أليس صنعتم ما صنعتم فيها (أي من تأخيرها عن وقتها) ).

والكلمة الثانية رويت عن مالك عن أبي سهل بن مالك عن أبيه وكان من كبار التابعين قال : ( ما أعرف شيئا مما أدركت الناس عليه إلا النداء بالصلاة).وفي هاتين الكلمتين تقرير لفضل العصر الأول وما كان عليه القوم من مستوي رفيع كما أن فيه تذكيرا وتحذيرا من مخالفة سنة رسول الله ونهج أصحابه الكرام.

والكلمة الثالثة رويت عن مالك أنه سئل عما يصنع أهل المدينة ومكة من إخراج إمائهم عراة متزرات وأبدانهن ظاهرة وصدورهن وعما يصنع تجارهم من عرض جواريهم للبيع علي تلك الحال؟ فكرهه كراهية شديدة ونهي عنه وقال : ( ليس ذلك من أمر من مضي من أهل الفقه والخير ولا أمر من يفتي من أهل الفقه والخير إنما هو من عمل من لا ورع له من الناس).

والكلمة الرابعة رويت عن هشام بن عروة ابن الزبير يقول : ( لما اتخذ عروة قصره بالعقيق عوتب في ذلك وقيل له : جفوت عن مسجد رسول الله .فقال : إني رأيت مساجدكم لاهية وأسواقكم لاغية والفاحشة في فجاجكم عالية فكان فيما هنالك عما أنتم فيه عافية... قالوا : فهذا عروة يخبر عن المدينة بما ذكرنا فكيف يحتج بشئ من عمل أهلها لا دليل عليه؟ قال أبو عمر : والذي أقول به أن مالكا رحمه الله إنما يحتج في موطئه وغيره بعمل أهل المدينة يريد بذلك عمل العلماء والخيار والفضلاء لا عمل العامة السوآء).

وفي هاتين الكلمتين ما يفيد أنه يوجد في كل عصر أهل الخير والفقه كما يوجد العامة السوآء ومن لا ورع له ويصدر منهم ما فيه فساد وانحراف عن الهدي الأول.

ويلحق بدعوي فساد الزمان , القول بأن أحكام الشريعة من التيسير والتخفيف تقررت في عصر الأطهار الأبرار وقد تغير الحال وما عادت هذه الأحكام تناسب فساد الزمان.ولا سبيل لسد ذريعة الفساد إلا بالحظر والتضييق وتغيير أحكام التيسير التي كانت سائدة زمن النبي صلي الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين والمتعلقة بمشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية , ولو كان هذا اللقاء في بيت من بيوت الله وخلال صلاة بين يدي الله.ومن أمثلة القول بأن عصر الأطهار الأبرار قد ولي ومضي قول من قال : ( واجتماع أبي بكر وأنس بأم أيمن لا يستلزم النظر إليها , علي أن مثل هؤلاء لا يقاس بهم غيرهم ومن ثم جوزوا لمثلهم الخلوة)

ويذكرنا هذا الغلو بما قاله الجويني عن المغالين الذين لم يروا الوقوف عند أحكام التخفيف والتيسير التي قررها الشارع في مجال العقوبات وقالوا : ( ...ما جري في صدر الإسلام من التخفيفات كان سببه أنهم كانوا علي قرب عهد بصفوة الإسلام , وكان يكفي ردعهم التنبيه اليسير المقدار القريب من التعزير. وأما الآن فقد قست القلوب وبعدت العهود ووهنت العقود سار متشبث عامة الخلق الرغبات والرهبات.فلو وقع الاقتصار علي ما كان من العقوبات لما استمرت السياسة.وهذا الفن قد يستهين به الأغبياء وهو علي الحقيقة تسبُّب إلي مضاده ما ابتعث به سيد الأنبياء.وعلي الجملة من ظن أن الشريعة تُتلقي من استصلاح العقلاء ومقتضي رأي الحكماء فقد رد الشريعة واتخذ كلامه هذا إلي رد الشرائع ذريعة ... وهذه الفنون من رجم الظنون ولو تسلطت علي قواعد الدين لاتخذ كل من يرجع إلي مُسكة من عقل فكره شرعا ولانتحاه ردعا ومنعا , فتنهض هواجس النفوس حالة محل الوحي إلي الرسل ثم يختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة فلا يبقي للشرع مستقر وثبات... فالحق المتبع ما نقله الأثبات عن سيد الوري وما سواه محال وماذا بعد الحق إلا الضلال ... وإنما ينسل عن ضبط الشرع من لم يحط بمحاسنه ولم يطلع علي خفاياه ومكامنه. فلا يسبق إلي مكرمة سابق إلا ولو بحث عن الشريعة لألفاها أو خيرا منها في وضع الشرع ... والأنبياء عليهم السلام مبعثون بحسم المراسم والدعاء إلي قصد الأمور )

ومما ساند دعوي فساد الزمان وأدي إلي الغلو في سد الذريعة دعوي الأخذ بالأحوط.ومثال ذلك قولهم : ( يحرم نظر فحل بالغ إلي عورة حرة كبيرة أجنبية وهي ما عدا وجهها وكفيها بلا خلاف لقوله تعالي {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} وكذا وجهها وكفها عند خوف الفتنة..وكذا عند الأمن من الفتنة فيما يظنه من نفسه من غير شهوة علي الصحيح.وجهه الإمام ... بأن النظر مظنة الفتنة ومحرك للشهوة واللائق بمحاسن الشريعة سد الباب والإعراض عن تفاصيل الأحوال كالخلوة بالأجنبية. وبه اندفع القول بأنه غير عورة فكيف حرم نظره؟لأنه مع كونه غير عورة نظره مظنة للفتنة أو الشهوة ففطم الناس عنه احتياطا )

وفي إنكار الأخذ بالأحوط يقول القرضاوي : ( وقد تبين لي بطول الدراسة و الممارسة أن الرجوع المباشر للكتاب والسنة يقترن دائما بالتخفيف والتيسير والبعد عن الحرج والتعسير علي خلاف الرجوع إلي الفقه المذهبي الذي حمل علي طول العصور كثيرا من التشددات نتيجة الاتجاه إلي الأخذ بالأحوط غالبا. وإذا صار الدين مجموع "أحوطيات" فَقَدَ روح اليسر وحمل طابع الحرج والمشقة مع أن الله تعالي نفي الحرج عنه نفيا باتا حين قال : {وما جعل عليكم في الدين من حرج} ).

كما أنكر علماء أجلاء منذ قرون وجوب الأخذ بالأحوط. ومن ذلك ما قاله إمام الحرمين : ( فإن قيل هلا وجب الأخذ بالأحوط ؟ قلنا : لم يتأسس في قواعد الشرع أن ما شك في وجوبه وجب الأخذ بوجوبه ).

ونحن نقدر موقف المعارضين فهم قد آلم قلوبهم ما هناك من فساد في الأخلاق , ولكنهم غلوا في تصور الفساد كما غلا أجداد لهم حتي غلبهم وأذهلهم عما في تقرير المشاركة واللقاء من مصالح , وما في حظرها من مشقة وحرج.

*****
من كتاب ((تحرير المرأة في عصر الرسالة))
عبد الحليم أبو شقة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق