قال الإمام سفيان الثوري: (إنما العلم الرخصة من ثقة ، أما التشديد فيحسنه كل أحد).

التشديد في حقيقته هو الاجتهاد الأسهل وليس الاجتهاد الأفضل

الخميس، 8 ديسمبر 2011

معالم شرعية لعمل المرأة المهني في عصرنا



تمهيد ضروري


قبل استعراض المعالم الشرعية نحب أن نلفت الانتباه إلي أمرين خطيرين أولهما:يتعلق ببعض الدعاوي الخاطئة الرائجة في عصرنا.وثانيهما :يتعلق بالبحوث العلمية المطلوبة لترشيد عمل المرأة المهني.

أما عن الأمر الأول فنؤكد أنه ينبغي إنكار الدعاوي الخاطئة عن عمل المرأة المهني التي يرددها المستغربون مثل ضرورة الاستقلال الاقتصادي للمرأة المتزوجة حتي تكون لها إرادتها الحرة.وهذه الدعوي كفيلة بهدم الأساس الذي تقوم عليه الأسرة,تلك المؤسسة الصالحة التي تعتمد علي تعاون أعضائها وتوزيع المسئوليات بينهم ولا يمكن أن تقوم علي استقلالهم وصراعهم.وكذلك دعواهم أن العمل المهني ضروري للمرأة حتي تستطيع أن تحقق ذاتها وتنمي شخصيتها.وهم في هذا مخطئون,فالمرأة يمكن أن تحقق ذاتها تحقيقا كاملا وهي في عملها ربة بيت مع أقدار من المشاركة في نشاط اجتماعي أو سياسي.وهذا لاينفي ما يمكن أن يضيفة العمل المهني من خبرات حياتية مفيدة لمن يتيسر لها مثل هذا العمل.



وينبغي أيضا إنكار دعوي المتشددين بأن عمل المرأة المهني محظور ولا يكون إلا عند الضرورة, والضرورات تبيح المحظورات,والضرورة تقدر بقدرها.وهكذا يصبح العمل المهني في مستوي أكل الميتة مخافة الهلاك والعياذ بالله! وما ندري من أين جاء هذا الحظر؟ إن درجة ارتباط المرأة بالبيت مسألة اجتماعية تتعدد صورها حسب ظروف المرأة وظروف المجتمع وليست حكما دينيا ثابتا فيه من الله أمر قاطع.



وأما عن الأمر الثاني المتعلق بالبحوث العلمية المطلوبة لترشيد عمل المرأة فنقول:

إن عمل المرأة المهني في المجتمع المعاصر – في حدود المعالم الشرعية – يعد تطورا هاما وخطيرا , وتمتد آثاره إلي كثير من نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية,وخاصة في كيان الأسرة ,وهي البنية الأساسية للمجتمع.ولكي يتم هذا التطور في إطاره الصحيح , فننعم بثمراته الطيبة وننجو من آثاره الضارة , ينبغي أن يصاحب هذا التطور ويلاحقه تطور مماثل في المجالات التربوية والاجتماعية والاقتصادية والتنظيمية.وذلك نظرا لتشابك جوانب الحياة المختلفة وتفاعلها وتبادلها التأثير.


ونسأل الله سبحانه أن يوفق الباحثين المخلصين لعمل الدراسات العلمية الشاملة بدءاً من معرفة الفوارق الأساسية بين الذكر والأنثي من مختلف الجوانب وفي جميع مراحل العمر,إلي نظم التعليم ومناهجه لكل من البنين والبنات,إلي الأعمال المهنية المناسبة لكل من الجنسين.فتلك الدراسات هي التمهيد الضروري والطبيعي لرسم خطوط التطوير اللازمة في كل مجال من مجالات الحياة وبتحقيق ذلك كله نرجو لمجتمعنا النهوض علي هدي ونور.

المعلم الأول

ينبغي توفير التعليم المناسب للمرأة بحيث يحقق – بجانب الأهداف العامة للتربية الإسلامية – أمرين أساسيين: أولهما : تمكينها من رعاية البيت والأطفال أكمل رعاية ولتكون جديرة بحمل مسئوليتها عند الزواج تحقيقا لقول رسول الله : (( المرأة راعية علي أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم)). وثانيهما: تمكينها من اتقان مهنة مناسبة عند الحاجة سواء أكانت حاجة فردية أم أسرية أم اجتماعية.


• عن أبي بردة عن أبيه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران )). [رواه البخاري]



وإذا كان هذا شأن تعليم الأمَة وتأديبها فشأن تعليم البنت أعظم.

• عن عائشة رضي الله عنها قالت جاءتني امرأة معها ابنتان تسألني فلم تجد عندي غير تمرة واحدة فأعطيتها فقسمتها بين ابنتيها ثم قامت فخرجت فدخل النبي صلي الله عليه وسلم فحدثته فقال (( من يلى من هذه البنات شيئا فأحسن إليهن كن له ستراً من النار)).[رواه البخاري]

وقد أورد الحافظ ابن حجر في شرحه لحديث عائشة عدة أحاديث بأسانيد متفاوته في الإحسان إلي البنات من ذلك:
(( ... فأنفق عليهن وزوجهن وأحسن أدبهم...)) (( ... فأحسن صحبتهن واتقي الله فيهن...)) (( ... يؤدبهن ويرحمهن ويكفلهن...)) ثم قال : وهذه الأوصاف يجمعها لفظ ( الإحسان ) الذي اقتصر عليه حديث عائشة.

ونحب أن نلفت الانتباه هنا إلي أمرين:

أولهما : إن لفظ الإحسان الذي ورد في الحديث يرشدنا إلي أن الإحسان إلي البنت يكون بتوفير أكبر فرصة لها لتنهل من الخلق القويم والعلم النافع وإن كان الخلق له صفة الثبات, فالعلم النافع يختلف نوعه وقدره من عصر إلي عصر ومن مكان إلي مكان , المهم أن يوفر للبنت القدرة علي تحمل مسئوليتها عند الزواج.

ثانيهما : كم يكون أشرف وأكرم لتلك المرأة المذكورة في حديث عائشة وكم يكون إحسانها أكبر إلي ابنتيها لو أنها قدرت علي العمل وأطعمت نفسها وابنتيها من كسبها الحلال الطيب بدلا من سؤال الناس والأكل من الصدقة وهي كما قال رسول الله : (( إنما هي أوساخ الناس )) . [رواه مسلم]

ويؤكد ضرورة إقدار المرأة في عصرنا علي العمل والكسب الضعف الغالب في قدرة أوليائها علي إعالتها هي وأطفالها عندما تطلق أو تترمل .وما أجمل قول ابن عابدين: (للوالد دفع ابنته لامرأة تعلمها حرفة كتطريز وخياطة مثلا ) وذلك حتي تستطيع أن تعول نفسها من كسبها عتد الحاجة.وهذا الذي ذكرناه داخل بجملته في ( الإحسان ) الوارد في حديث السيدة عائشة.

ونقترح أن يشتمل منهج التعليم علي ثلاثة جوانب:

أولها: دراسة نظرية لإحدي المهن.

وثانيها: تدريب عملي علي المهنة مع التأكيد علي ضرورة حصول الطالبة علي قدر جيد من التدريب حتي إذا تم زواج مبكر دون ممارسة عمل مهني تكون قد اكتسبت دربة تمكنها – بعد فترة إعادة تدريب – من ممارسة المهنة عند الحاجة وبصورة مُرْضية.

وثالثها: دراسة المعالم الشرعية المتعلقة بعمل المرأة المهني.وذلك كله مضافا إلي التعليم الأساسي.

المعلم الثاني 

ينبغي أن تستثمر المرأة وقتها كاملا وأن تكون عنصرا منتجا مفيدا للمجتمع و لا ترضي لنفسها البطالة في أية مرحلة من حياتها شابة وكهلة وعجوزا.وفي جميع حالاتها بنتا وزوجة ومطلقة وأرمل , فما زاد من وقتها عن حاجة البيت استثمرته في عمل نافع سواء كان عملا مهنيا أو غير مهني.

قال تعالي: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثي وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون }


أجملت الآية مجازاة الإنسان رجلا وامرأة عن أعماله الصاحة يوم القيامة.وهناك حديث شريف يذكر تفصيلا يرشدنا إلي حسن استثمار أعمارنا ويحذرنا تحذيرا شديدا من هدر الأوقات وتضييع ساعات العمر في غير عمل صالح.أي أننا سوف نحاسب علي استثمار الدقيقة من الوقت كما سنحاسب علي عمل مثقال الذرة من الخير أو الشر.


• عن أبي برزة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناة وعن جسمه فيما أبلاه وعن علمه ما عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ). [رواه الترمذي]


المعلم الثالث 

الزوج مسئول عن الإنفاق علي زوجه فريضة واجبة فيغنيها عن السعي لكسب العيش , والوالد مسئول عن الإنفاق علي ابنته , وتقوم الدولة مقامهما إذا عجزا أو توفيا ولم يخلفا ما يغني المرأة.

مسئولية الزوج في الإنفاق :

قال تعالي : { الرجال قوامون علي النساء بما فضل الله بعضهم علي بعض وبما أنفقوا من أموالهم }

• عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله:((...ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف...)).[رواه مسلم]
عن عائشة أن هند بنت عتبة قالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال :(( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)). [رواه البخاري ومسلم]

مسئولية الأب في الإنفاق :

‏• عن أبي هريرة ‏ ‏قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ‏‏: ((... وإبدأ بمن تعول ‏، ‏تقول المرأة : أما إن تطعمني وأما إن تطلقني ... ويقول ‏الإبن : أطعمني إلى من تدعني؟)). [رواه البخاري]

قال الحافظ ابن حجر: ( قوله (ويقول الابن : أطعمني إلي من تدعني)...استدل به علي أن من كان من الأولاد له مال أو حرفة لا تجب نفقته علي الأب , لأن الذي يقول : (إلي من تدعني؟) إنما هو من لا يرجع إلي شئ سوي نفقة الأب ومن له حرفة أو مال لا يحتاج إلي قول ذلك).

وقال الخير الرملي : لو استغنت الأنثي بنحو خياطة أو غزل يجب أن تكون نفقتها في كسبها.

مسئولية الدولة في الإنفاق :

• عن أبي هريرة ‏ ‏قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ((أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه ومن ترك مالاً فلورثته.وفي رواية : ومن ترك كلَّا فإلينا)). [رواه البخاري]
كلا: الكل من لا يستقل أمره

قال الحافظ ابن حجر : (... أراد المصنف بإدخال "الحديث" في أبواب النفقات الإشارة إلي أن من مات وله أولاد ولم يترك لهم شيئا فإن نفقتهم تجب في بيت المال).

• عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته , فالأمير الذي على الناس راع ومسئول عنهم)). [رواه البخاري ومسلم]

• عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق، فلحقت عمر امرأة شابة فقالت: يا أمير المؤمنين ، هلك زوجي ، وترك صبية صغاراً. والله ما يُنضحون كراعاً ولا لهم زرع ولا ضرع....، فوقف معها عمر ولم يمضِ، ثم قال: مرحباً بنسب قريب. ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطاً في الدار، فحمل عليه غِرارتين ملأهما طعاماً ، وجعل بينها نفقة وثياباً ، ثم ناولها خِطامه ، ثم قال: اقتاديه فلن يفنى حتى يأتيَكم الله بخير. [رواه البخاري]


المعلم الرابع

الرجل له القوامة علي الأسرة لذا ينبغي استئذانه في شأن عمل الزوجة أو الابنة عملا مهنيا.

قال تعالي : {الرجال قوامون علي النساء }


• عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته , والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم...)). [رواه البخاري ومسلم] 

ومعلوم أن رئاسة الرجل للأسرة وسلطته في الإذن لزوجته أو ابنته لتعمل عملا مهنيا يحكمها الشرع والعرف , فلا ينبغي له أن يعتسف دون 
مسوغ شرعي في منع المرأة من العمل النافع لها ولمجتمعها , كما لا يحق له أن يلزمها القيام بعمل مهني دون ضرورة.

المعلم الخامس


يندب للمرأة المسلمة - أو يجب عليها الزواج - المبكر تحصينا لها وتمكينا لمجتمع طاهر عفيف ينعم أفراده رجالا ونساء بمستوي جيد من الصحة النفسية والخلق السوي.وقد يكره أحيانا - ويحرم أحيانا - أن يكون العمل المهني صارفا لها عن الزواج أو مؤخرا له دونما ضرورة أو حاجة.كما يندب أحيانا لها القيام بعمل مهني إذا كان ذلك معينا علي إتمام الزواج.


• عن أنس بن مالك عن رسول الله صلي الله عليه وسلم : ((... أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). [رواه البخاري]

• وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج )). [رواه البخاري]



وحكم الزواج متردد بالنسبة للمرأة بين أن يكون مندوبا أو واجبا.فإذا كان العمل المهني صارفا لها عن الزواج فهو مكروه أو محرم.

رسول الله يحرضنا علي التبكير بتزويج البنات تحصينا لهن وتوفيرا لكمال العفة و كمال الصحة النفسية فيقول :
(( لو كان أسامة جارية لكسوته وحليته حتي أنفقه (أزوجه) )).ولهذا قلنا يندب للمرأة الزواج المبكر ويكره منها تأخيره بسبب العمل المهني علي أن مفهوم التبكير يختلف من عصر إلي عصر ومن بيئة إلي أخري فإذا كان التبكير قديما يبدأ مع البلوغ فنحسب أنه في يومنا هذا يبعد عن البلوغ بسنوات يختلف طولها أيضا بين البيئة الريفية والبيئة الحضرية.

وامتثالا لنهج الشارع في تيسير الزواج قلنا يندب للمرأة القيام بعمل مهني إذا كان ذلك معينا علي إتمام الزواج وهذا في حالة هبوط دخل كثرة من الرجال الراغبين في الزواج عن مستوي الكفاية لإعالة أسرة , بل و يرتفع الندب إلي درجة الوجوب إذا تأكد أهل الفتاة من ضرورة هذا الأمر لتيسير زواج ابنتهم وذلك تطبيقا للقاعدة الأصولية : ( ما لا يتم الوجب إلا به فهو واجب ) , والزواج كما ورد في اجتهادات العلماء واجب في حق من تعين – أو ترجح – أنه لا يتم حصانته وعفته بدون زواج. وهذه حالة عامة الشباب ذكورا وإناثا و بخاصة في زماننا حيث تروج المغريات وتكثر الفتن.

المعلم السادس 


المرأةالمسلمة تحرص علي الإنجاب – في حدود قدرة الأسرة وحاجة المجتمع - ولا يسوغ أن يكون العمل المهني صارفا عن ذلك.

قال تعالي: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة }


• عن جابر قال : ... قال رسول الله : (( الكيْس الكيْس يا جابر )). [رواه البخاري ومسلم]


قال عياض‏:‏ فسر البخاري وغيره الكيس بطلب الولد والنسل، وهو صحيح، قال صاحب ‏"‏ الأفعال ‏"‏‏:‏ كاس الرجل في عمله حذق

وقال الكسائي‏:‏ كاس الرجل ولد له ولد كيس.

وصدق رسول الله حيث يحرضنا علي طلب الولد : (( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم )). [رواه النسائي]
والولود تعرف من أقاربها، أمها، عمتها، خالتها وهكذا.

المعلم السابع 


المرأة مسئولة عن رعاية بيتها وأطفالها أكمل رعاية. ولا يجوز أن يعطل العمل المهني تحقيق هذه المسئولية وهي المسئولية الأساسية الأولي للمرأة المتزوجة.

قال تعالي : {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها و جعل بينكم مودة ورحمة }.


• عن أبي هريرة أن رسول الله قوله صلي الله عليه وسلم: (( خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره ، وأرعاه على زوج في ذات يده )). [رواه البخاري]

ركبن الإبل : إشارة إلي العرب

إن للرجل والمرأة والأطفال الحق الكامل في عشّ هادئ جميل يجدون فيه جميعا السكن والطمأنينة والصحبة المؤنسة السعيدة فضلا عن الرعاية الحانية.

أما الرجل .. فينبغي أن يجد في البيت الراحة النفسية والعصبية في ظل المودة الغامرة مع زوجه وصدق الله العظيم : {ليسكن إليها} كما يجد السعادة خلال مداعبة أطفاله.وإن الراحة وتجديد النشاط لهما الأثر الكبير في زيادة انتاج الرجل فضلا عن إحسان الإنتاج والإبداع فيه أيا كان مجال هذا الانتاج.

أما المرأة فإنها – مع قيامها بعمل مهني – يظل البيت هو جنتها التي تنعم فيها بالراحة وتجديد النشاط , وذلك في ظل الرعاية الحانية من الزوج ومن خلال سعادتها بحب أطفالها وذلك مما يزيد من إنتاجها الأسري والمهني ويبلغ به درجة الإحسان والإبداع.

وأما الأطفال فينبغي لهم الرعاية الطبية في مختلف مراحل النمو ومنها الرضاع من الأم ثم الحظوة منها - دون غيرها - بحضانة أقلها ثلاث سنوات اللهم إلا عند الضرورة القصوي.ثم التربية الرشيدة من الوالدين معاً حتي يبلغوا درجة النضج. كل ذلك في جو يفيض بمشاعر الحب والحنان مع تقوي الله تعالي

وهكذا يكون البيت جنة الرجل والمرأة والأطفال وهذه الجنة لا يمكن أن تتفتح براعمها ويفوح شذاها وينعم بها الجميع , بغير عقل المرأة وقلبها ويدها .. ولذا ينبغي أن تمضي المرأة – حين تمارس عملا مهنيا – في اتزان وخطوات محسوبة , حتي لا يطغي هذا العمل علي حق البيت. ولا يصرفها النجاح المهني مطلقا عن هذا الموقف المتزن. ولا يلهيها عن حياتها الأصيلة ودورها الأساسي مشاغل عارضة أو بعض زخارف ومباهج سطحية للعمل المهني.

المعلم الثامن 


يجب علي المرأة القيام بعمل مهني في حالين : أولهما :حال حاجتها لإعالة نفسها وأسرتها عند فقدان العائل أو عجزه ( الوالد أو الزوج أو الدولة ). وثانيهما : حال أداء ما يكون من الأعمال من فروض الكفاية علي النساء لحفظ كيان المجتمع المسلم. وعليها التوفيق قدر الإمكان بين أداء هذا العمل الواجب وبين مسئوليتها عن بيتها وأطفالها.


أولا : حاجة المرأة لإعالة نفسها وأولادها :


• عن جابر بن عبد الله قال : طلقت خالتي فأرادت أن تجد نخلها فزجرها رجل أن تخرج فأتت النبي صلي الله عليه وسلم فقال : بلي فجدي نخلك فإنه عسي أن تصدقي أو تفعلي معروفاً. ( رواه مسلم )

تجد نخلها : تجمع ثمار نخلها

يجوز للمطلقة الخروج نهارا للحاجة ، كشراء سلع تحتاج إليها ، أو الذهاب للعمل والوظيفة من تدريس ونحوه ، وحضور الدروس التي لابد من حضورها ، وأما الخروج للنزهة فلا . (موقع الإسلام سؤال وجواب)

ثانيا : حاجة المجتمع لأعمال تعد من فروض الكفاية :

الواجب الكفائي هو ما طالب الشارع فعله من مجموع المكلفين لا من كل فرد منهم , بحيث إذا قام به بعض المكلفين فقد أدي الواجب وسقط الإثم والحرج عن الباقين , وإذا لم يقم به أي فرد من أفراد المكلفين أثموا جميعا بإهمال هذا الواجب.فالقادر بنفسه وماله علي أداء الواجب الكفائي عليه أن يقوم به , و غير القادر علي أدائه بنفسه عليه أن يحث القادر ويحمله علي القيام به .

والفروض الكفائية علي النساء - في مجال العمل المهني – هي الأعمال التي تفرضها حاجة المجتمع المسلم علي مجموع النساء وتكون بمثابة ضرورات اجتماعية , سواء كانت تلك الأعمال هي في الأصل من اختصاص النساء وحدهن أو مما يحتاج فيها إلي مشاركة النساء. أو كانت تلك الأعمال في الأصل من اختصاص الرجال لكن حدث عجز في جهد الرجال واحتيج إلي جهد النساء لتحقيق حاجة المجتمع. ومن أمثلة النوع الأول تعليم وتطبيب وتمريض النساء وحضانة وتعليم الأطفال ورعاية اليتامي والأحداث الشاردين وكذلك بعض مجالات الخدمة الاجتماعية.

المعلم التاسع

يندب للمرأة العمل المهني – بشرط توافقه مع مسئوليتها الأسرية – للمقاصد الآتية : ( أ ) معاونة الزوج أو الأب أو الأخ الفقير. ( ب ) تحقيق مصلحة كبيرة للمجتمع المسلم. ( جـ ) البذل في في وجوه الخير.

( أ ) معاونة الزوج أو الأب أو الأخ الفقير :

• عن زينب امرأة عبد الله قالت : ... فخرج علينا بلال فقلنا له ائت رسول الله صلي الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك أتجزي الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في جحورهما ولا تخبره من نحن قالت فدخل بلال على رسول الله فسأله فقال له رسول الله صلي الله عليه وسلم من هما فقال امرأة من الأنصار وزينب فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم أي الزيانب قال امرأة عبد الله فقال له رسول الله صلي الله عليه وسلم لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة. (رواه مسلم)

وجاء في فتح الباري : ( وحملوا الصدقة في الحديث علي الواجبة لقولها : "أتجزيء عني ؟ " وبه جزم المازري وتعقبه عياض بأن قوله : " ولو من حليكن" , وكون صدقتها كانت من صناعتها يدلان علي التطوع. وبه جزم النووي. وتأولوا قوله : أتجزيء عني؟ أي في الوقاية من النار , كأنها خافت أن صدقتها علي زوجها لا تحصل لها المقصود , وما أشار إليه من الصناعة احتج به الطحاوي لقول أبي حنيفة فأخرج من طريق امرأة ابن مسعود أنها كانت أمرأة صنعاء اليدين فكانت تنفق عليه وعلي ولده. قال : فهذا يدل علي أنها صدقة تطوع.

صنعاء اليدين : حاذقة في الصنعة.

ونقول : نِعْمَ هذا المال الذي تكسبه المرأة من العمل المهني , إذ يوفر الحياة الكريمة لها ولأسرتها.

( ب ) تحقيق مصلحة كبيرة للمجتمع المسلم :

ومثال ذلك أولئك النسوة اللائي وهبهن الله ملكات ومواهب عالية وقدرات فائقة مثل طلاقة اللسان التي يصدر عنها العظة البليغة والكلمة المؤثرة أو حسن البيان الذي يثمر الشعر الرقيق والمقال الرشيد , أو العقل الذكي الذي يتلقي مستوعبا شغوفا العلوم والمعارف ثم يبدع الجديد المفيد. إن أولئك النسوة ينبغي رعاية مواهبهن حتي يستطعن أداء زكاة تلك المواهب , خاصة وأن أولئك الموهوبات قد يكن في مجال عملهن أفضل من كثير من الرجال.

( جـ ) البذل في وجوه الخير :

• عن عائشة أم المؤمنين قالت : ( ...فكانت أطولنا يداًَ زينب ( بنت جحش ) لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق ).(رواه مسلم)

المعلم العاشر
 
يندب الرجل لمعاونة زوجه في شئون البيت إذا غلبها العمل المهني المندوب و تجب عليه المعاونة إذا كان العمل واجبا.

• عن الأسود بن يزيد : سألت عائشة رضي الله عنها : ما كان النبي صلي الله عليه وسلم يصنع في البيت ؟ قالت : كان يكون في مهنة أهله , فإذا سمع الأذان خرج. [رواه البخاري]

ورحم الله البخاري , فقد كان فقهه في تراجمه كما يقرر العلماء. وقد ذكرهذا الحديث في عدة أبواب من صحيحه وهذه تراجمها ( أي عناوينها ) : باب خدمة الرجل في أهله , باب : من كان في حاجة أهله , باب : كيف يكون الرجل في أهله.

إن من حسن رعاية الرجل لبيته ووفائه بمسئوليته أن يعين زوجه بصفة عامة في شئون البيت والأطفال. ويتأكد هذا العون إذا ثفل عليها العمل المهني حتي يتحقق العدل في مجموع الجهد المبذول من الطرفين داخل البيت وخارجه. فضلا عن المودة والرحمة المرجوة بين الطرفين.

وإذا كان رسول الله (( يحلب شاته ويخدم نفسه )) وكان (( يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم )) [رواه أحمد] وذلك مع تفرغ زوجاته لشئون البيت , فكيف يكون الأمر عند اشتغال المرأة بعمل مهني ؟


المعلم الحادي عشر

عند قيام الزوجة بعمل مهني فالزوجان يتراضيان بينهما علي طريقة التصرف في الأجر الذي تتقاضاه المرأة عن هذا العمل.

• عن كريب مولي ابن عباس : أن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها أخبرته أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي صلي الله عليه وسلم فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت : أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي ؟ قال : أو فعلت ؟ قالت : نعم قال : أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك . [رواه البخاري ومسلم]

• عن زينب امرأة عبد الله قالت : ... فمر علينا بلال فقلنا : سل النبي صلي الله عليه وسلم : أيجزي عني أن أنفق علي زوجي وأيتام لي في حجري؟.... قال : نعم ولها أجران أجر القرابة وأجر الصدقة. [رواه البخاري ومسلم]

إن التراضي بين الزوجين علي مختلف شئونهما أمر محمود وهو الأصل في أسرة تقوم علي المودة والرحمة وتتقاسم النعماء والضراء. ولكن إذا لم يحدث التراضي ووقع الخلاف حول ما تكسبه المرأة من عملها المهني , فما الحل؟ إن حديث ميمونة يفيد حرية تصرف الزوجة في مالها وإن كان يحمل دلالة علي أفضلية مشاورة الزوج.

أما حديث زينب امرأة ابن مسعود فيفيد ندب مساعدة المرٍأة زوجها من مالها. ولكن دخل الزوجة من عمل مهني , وخاصة إذا كان بمواصفاته المعاصرة , لابد يلقي علي الزوج بعض المشاق البدنية والنفسية ما كانت لتقع لو أن الزوجة تفرغت لبيتها تفرغا تاما. وهذا التفرغ من حق الرجل مقابل واجبه في تحمله وحده مسئولية الإنفاق. لذلك ينبغي تعويضه عن المشاق بجزء من دخل العمل المهني. أما كيف يقدر التعويض فهذا أمر يستحق أن تصدر من أجله فتوي من هيئة علمية تساعد الزوجين علي تسوية الأمر بينهما.

ونقدم هنا اقتراحا للدراسة :

( أ ) يتحمل الرجل نفقات البيت الأصلية كاملة باعتباره المسئول الأصلي عن الإنفاق.

(ب) تتحمل المرأة نفقات البيت الإضافية الناتجة عن العمل المهني , باعتبارها متسببة في هذه النفقات الإضافية.

(جـ) تقدم المرأة قدرا من المال إلي الرجل تعويضا عن تحمله بعض آثار العمل المادية والنفسية. ويختلف هذا القدر حسب حال كل من الزوجين المالية. فمن كان منهما في سعة , فليسامح في حقه وذلك حتي يمكن صاحبه من عمل المعروف والإنفاق في وجوه البر.وَنِعْمَ المودة والرحمة تحكم الأمر بين الزوجين في كل الظروف و الأحوال.

المعلم الثاني عشر

المجتمع المسلم متضامن في تهيئة الأسباب التي تساعد المرأة العاملة علي الوفاء بمسئوليتها الأسرية والمهنية. قال تعالي :{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض }

إن المجتمع المسلم بأفراده ومؤسساته الشعبية وأهل الرأي فيه متراحم متعاطف وينبغي أن يتواصي ويتنادي أهل الخير فيه للقيام بعمل إيجابي في تذليل العقبات التي تواجه المرأة حين تضطرها ظروف العصر لأن تجمع بين رعاية بيتها وأطفالها وبين العمل المهني ومن ذلك :

1- تأسيس دور حضانة علي مستوي رفيع في كل حي من الأحياء وفي كل مؤسسة كبيرة.

2- تشجيع المبادرات لعمل المرأة المهني المنزلي.

3- توسيع نطاق المهن المنزلية والخدمات المنزلية التي تحتاج إلي ترتيب جماعي وهذه بعض الأمثلة :

( أ ) مشلركة النساء في مجال الانتاج في داخل البيت سواء في الصناعات المنزلية اليدوية أو حتي في الصناعات الدقيقة التي تعتمد توزيع الأجزاء لتصنيعها في البيوت ثم تجميعها في شكله النهائي, وهناك تجارب ناجحة في هذا المجال.

(ب) مشاركة النساء في مجال الخدمات داخل البيت مثل إعداد الوجبات الجاهزة أو شبه الجاهزة , ومثل اتخاذ بيت الأسرة ذات الطفل الواحد كدار حضانة لعدد محدود من الأطفال.

المعلم الثالث عشر
 
الحكومة المسلمة مسئولة عن أمرين أساسيين إزاء عمل المرأة المهني . أولهما : توفير الأجر المناسب للرجل المتزوج من موظفي الدولة ليتمكن وحده من إعالة أسرته دونما حاجة لقيام امرأته بعمل مهني. وثانيهما : توفير الظروف المناسبة للمرأة حين تقوم بعمل مهني تابع للدولة.

ومن أمثلة واجبات الحكومة المسلمة إزاء المرأة العاملة :

1- مراعاة خصائص كل من المرأة والرجل في اختيار العاملين لمختلف الوظائف في مؤسسات الحكومة. وهذا الأمر ينبغي أن يعتمد علي دراسات علمية نفسية واجتماعية.

2- إلحاق دور حضانة بالمؤسسات الحكومية ييسر علي المرأة رعاية طفلها في الحالات الضرورية هذا فضلا عن إنشاء دور حضانة بالأحياء.

3- تأمين الوسائل المعينة علي تحقيق آداب لقاء المرأة الرجال سواء في المواصلات العامة أو في مكان العمل.

4- سن التشريعات اللازمة لتمكين المرأة من الجمع بين رعاية بيتها وأطفالها وبين العمل المهني مثل : تنظيم إجازات مناسبة للولادة والحضانة بمرتب أو نصف مرتب ومثل السماح بالعمل نصف الوقت بنصف الأجر أو بأجركامل في حال حضانة المرأة العاملة لأطفال. ومثل تقليل زمن عمل المرأة يوميا حتي نوفر عليها معاناة زحام المواصلات وهو في ذروته وقت حضور الموظفين وانصرافهم.

المعلم الرابع عشر 

تصان المرأة عن مزاولة أعمال مهنية تتعارض مع طبيعتها وخصائصها البدنية والنفسية وهذه الأعمال نوعان : نوع حظره الشارع حظرا مطلقا ونص عليه قاطعا , مثل الولاية العامة العليا. ونوع يجتهد المسلمون في تقريره , ومن أمثلته الأعمال البدنية الشاقة التي تتطلب جهدا بالغا متصلا يثقل كاهل المرأة وكذلك الأعمال التي تتطلب جهدا نفسيا مؤلما وتقتضي قسوة وغلظة ترهق مشاعرها.

المعلم الخامس عشر 


حين تقتضي مشاركة المرأة في العمل المهني لقاء الرجال ينبغي أن يراعي الرجال والنساء جميعا آداب المشاركة التي تم عرضها في فصل خاص ونُذَكرَّ هنا ببعض تلك الآداب مثل : الاحتشام في اللباس , والغض من البصر , واجتناب الخلوة والمزاحمة , وكذلك اجتناب اللقاء الطويل المتكرر أي اجتماع الرجال والنساء في مكان واحد طول فترة العمل رغم انفراد كل منهم بعمل. أما إذا كانت طبيعة العمل تقتضي اللقاء المتكرر للتعاون وتبادل الرأي أو لغير ذلك من المصالح فلا حرج مادامت هناك حاجة ماسة.

علي أنه إذا تخلفت بعض هذه الآداب في المؤسسات المهنية القائمة فهل يسوغ أن نسقط المصالح المحققة سواء للمرأة أو للمجتمع ونطالب المرأة المسلمة بألا تشارك في عمل تلك المؤسسات؟ أم الأولي رعاية هذه المصالح مع السعي الحكيم لاستكمال تطبيق الآداب الشرعية.
إن قواعد الأصول تقرر وجوب تقدير الحاجات والمصالح عند درء المفاسد , فينظر إلي المصالح والمفاسد ويقدم أرجحهما.

*****
من كتاب ((تحرير المرأة في عصر الرسالة))
عبد الحليم أبو شقة






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق