قال الإمام سفيان الثوري: (إنما العلم الرخصة من ثقة ، أما التشديد فيحسنه كل أحد).

التشديد في حقيقته هو الاجتهاد الأسهل وليس الاجتهاد الأفضل

الجمعة، 30 مارس 2012

كيف نتعامل مع السنة النبوية


معالم وضوابط

وضع الدكتور القرضاوي هذا الكتاب ليبين كيف نتعامل مع السنة النبوية «بعيداً عن تضييق الحَرْفيين الذين يجمدون على الظواهر، ويغفلون المقاصد، ويتمسكون بجسم السنة، ويهملون روحها! وبعيدا أيضاً عن تمييع المتهاونين والمتعالين الذي يدخلون البيوت من غير أبوابها، والذين يقحمون أنفسهم فيما لا يحسنون، ويقولون على الله ورسوله ما لا يعلمون».



وحاول أن ينصف «السنة من خصومها اللدّ، ثم من أنصارها، الذين يسيئون إليها بضيـق أفقهم ـ مع حسن نيتهم الجليلتين شاغلا لعالم، وموضوعاً لكتاب.

وسجّل الدكتور في مطلع الكتاب (ص27) أن «أوضح ما تتمثل فيه أزمة الفكر هي أزمة فهم السنة والتعامل معها، وخصوصا من بعض تيارات الصحوة الإسلامية فكثيرا ما أُتي هؤلاء من جهة سوء فهمهم للسنة المطهرة».

وحذّر من آفات ثلاث ـ يقع فيها كثير من الناس ـ هي: الغلوّ الذي يقود إلى التحريف اتباعاً للهوى. وانتحال أهل الباطل الذين يحاولون أن يدخلوا الإسلام ما ليس منه، ويلصقوا به من المبتدعات والمحدثات ما تأباه طبيعته وترفضه شريعته، وتنفر منه أصوله فروعه. وتأويل أهل الجهل الذي تُشوّه به حقائق الإسلام، ويُحرّف به الكلم عن مواضعه، وتُنْتقص به أطراف الإسلام.

وقد قعد العلماء لهذه الطوائف كل مرصد. فوقف للغلاة أهل الوسطية الإسلامية الذين أشربوا سماحة الشريعة ورحمتها وبساطتها فردّوا عليهم غلوّهم، وبينوا فساد عملهم وسوء عاقبتهٍ.

ووقف لأهل الباطل، المنتحلين في الإسلام ما ليس منه، علماء الرواية الذين سماهم أحمد بن حنبل ( الجهابذة )، وهم حفظة السنة، وعلماء الرجال، ونقلة الصحيح ونقدة الضعيف فسدّوا منافذ الانتحال وبينوا المقبول من المردود، وأصبح علمهم علماً على علم الحديث الإسلامي، حتى قال العلماء: «الإسناد من الدين. ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء»


وتصدى لأهل الجهل الفقهاء العاملون الذين ردوا مقولاتهم وبينوا انحرافاتهم، وأثبتوا الحق بدليله، وردوا الضلالة على أصحابها مهما يكن شأنهم غير خائفين في الله تعالى لومة لائم.

والكتاب ـ بعد بابه الأول ـ دليل علمي وعملي موثق لتجنب هذه الآفات مجتمعة. وإذا كان كل ما ذهب إلى الدكتور القرضاوي في المسائل المتعددة التي أثارها وبحثها موثقاً، مردوداً إلى أصوله من علم السلف الصالح، فإن جمعه بين دفتّي كتاب واحد، وعرضه بالأسلوب القوي المشوّق الذي تتميز به كتابة الدكتور القرضاوي، وترتيبه ذلك الترتيب المنطقي القويم، كل ذلك جدير بأن يسلك الكتاب في عداد المصنفات العصرية الرائدة في علوم الدراية.

وقد شدَّد الدكتور القرضاوي في القسم الأخير من باب الكتاب الأول على ضرورة الاقتصار على الاستدلال بالحديث الصحيح والحسن دون الضعيف. وقد ذكر سوء صنيع بعض المفسرين واستشهادهم بالضعيف بل دفاعهم عن «الموضوع» من الأحاديث بزعم أنها كذب له (رسول الله ) وليست (كذباً عليه) مما هو محرم!! ولا يملك مسلم إلا أن ينضم إلى الدكتور القرضاوي حيث يقول: «ولا نملك هنا إلا أن نحوقل ونسترجع... فقد جهل هذا الشيخ ذو النزعة الصوفية أن الله أكمل لنا الدين... فلم نعد في حاجة إلى من يكمله لنا، باختراع أحاديث من عنده، كأنما يستدرك على الله أو يمتن على محمد صلى الله عليه وسلم، بقوله له: أنا أكذب لك لأتمم لك دينك الناقص...»(ص36)

وقرن الدكتور القرضاوي التحذير من رواية الضعيف وقبول الموضوع بالتحذير من ردّ الأحاديث الصحيحة، لا سيما«ردها بناءً على فهم خاطئ لاح في ذهن امرئ غير متخصص ولا متثبت، مما يدلنا على ضرورة التأني والتحري والتدقيق في فهم السنة، والرجوع إلى مصادرها وأهلها.. »(ص39)

وضرب القرضاوي أمثلة للفهم الخاطئ الذي ردت به أحاديث صحاح: فذكر من ردّ حديث ( اللهم أحييني مسكينا... ) بناءً على فهمه أن المسْكَنَة هي الفقر من المال، والحاجة إلى الناس وهما ينفيان استعاذة النبي من فتنة الفقر، وسؤاله الله تعالى العفاف والغنى.. والحق أن المسكنة هنا لا يراد بها الفقر وإنما يراد بها ـ كما بين العلماء ـ التواضع والإخبات، وألا يكون من الجبارين المتكبرين، وقد كان سلوك النبي صلى الله عليه وسلم كله بعيداً عن الكبر بكل صوره، حتى قال لمن هابه حين دخل عليه: ( هوّن عليك، فلست بملكٍ، وإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة).

وذكر إنكار بعض المعاصرين حديث تجديد الدين، إذ فهم من التجديد أنه التطوير بحيث يلائم الزمن، فقال إن الدين لا يجدد، بل هو ثابت لا يتغير.!!

وهذا الفهم ليس بشيء، فالصحيح أن تجديد الدين هو تجديد فهمه، والإيمان به، والعمل له. فليس التجديد إخراج صورة جديدة للدين، وإنما هو «العودة به إلى حيث كان في عهد الرسول وصحابته ومن تبعهم بإحسان»(ص43)

وذكر ردّ بعض جراء أهل عصرنا حديث أركان الإسلام الخمسة بحجة أن الجهاد لم يذكر فيه، فهو موضوع!! فقال الدكتور القرضاوي معقباً عليه «وجهل هذا أن الجهاد إنما يجب على بعض الناس دون بعض، ولا يفرض عيناً إلا في ظروف خاصة ولاعتبارات معينة، بخلاف هذه المعاني الخمسة، التي طابعها العموم لكل الناس».

والحق أن آفة رد الحديث الصحيح بفهم خاطئ متعجل كادت تصبح آفة عامة، لا يقع فيها العامة والدهماء وحدهم، بل يقع فيها كثير ممن يتصدون للكتابة في الصحف، ولمخاطبة الناس من خلال مختلف وسائل الاتصال والإعلام. وهذا البحث في كتاب الدكتور القرضاوي بالغ الفائدة في تنبيه هؤلاء إلى خطورة ما يصنعون. وفي تنبيه الجماهير المستمعة أو القارئة إلى عدم التسليم بإنكار الحديث قبل سؤال أهل العلم، ومعرفة معناه الصحيح، أو تأويله المقبول.

وفي الباب الثاني من الكتاب تناول الدكتور القرضاوي بحث السنة باعتبارها مصدرا للفقيه والداعية.

ففي مجال الفقه والتشريع تحدث عن مكانة السنة، ونقل أقوال الأئمة المعتبرين في الاحتجاج بها والنزول على ما يثبت فيها من أحكام باعتبارها بيان القرآن الكريم.

ومن أمتع ما في هذا الباب، وانفعه، الموضوع المعنون: ضرورة الوصل بين الحديث والفقه. (55_59).

وفي هذا الموضوع بين الدكتور القرضاوي أنه من الضروري سدّ الفجوة بين المشتغلين بالفقه والمشتغلين بالحديث. «فالغالب على المشتغلين بالفقه أنهم لا يتقنون فنون الحديث، ولا يتعمقون في معرفة علومه ولا سيما علم الجرح والتعديل.... ولهذا تنفق عندهم أحاديث لا تثبت عند أئمة هذا الشأن من صيارفة الحديث، ومع هذا يثبتونها في كتبهم ويحتجون بها لما يقررونه من أحكام الحلال والحرام، والإيجاب والاستحباب». (ص55).ثم قال: « والغالب على المشتغلين بالحديث أنهم لا يجيدون معرفة الفقه وأصوله والقدرة علي استخراج كنوزه ودقائقه، و الاطلاع على أقوال أئمته.... وأسباب اختلافهم، وتنوع اجتهاداتهم»...«مع أن كل فريق في حاجة إلى علم الآخر، ليكتمل به ما عنده، فلابد للفقيه من الحديث.... ولابد للمحدث من الفقه، حتى يعي ما يحمله، ولا يكون مجرد ناقل، أو يفهمه على غير وجــهه» (56).وهاتان الآفتان فاشيتان اليوم، فالذين يطلبون الحديث أكثرهم لا يعتنون بعلوم الدراية، فضلاً عن الفقه وأصوله، والذين يطلبون الفقه لا ينظرون في الحديث أصلاً ويتناقلون منه ما في كتب الفقهاء دون بحث ولا تمحيص وما أحسن ما نقله الدكتور القرضاوي عن سفيان بن عيينة:«لو كان الأمر بيدنا لضربنا بالجريد كل محدث لا يشتغل بالفقه، وكل فقيه لا يشتغل بالحديث».

ويوجد في كتب الفقه ـ كما يقول القرضاوي ـ «الضعيف الشديد الضعف، وما لا أصل له بالمرة»(ص56). بل إن «كتب أصول الفقه نفسها لا تخلو من الأحاديث الواهية والموضوعة والتي لا أصل لها...»(ص56). وكل ما قاله الدكتور القرضاوي في هذا الموضوع صحيح.

والمخرج من هذه الآفة عندي ـ آفة الانفصال بين الفقه والحديث ـ يكمن في أمرين:

أولهما: إصلاح مناهج التعليم في الجامعات والمعاهد المعنية بالعلوم الدينية بحيث لا يتخرج الطالب في أحد القسمين إلا وقد أخذ حظاً كافياً من علوم القسم الآخر.

وثانيهما: أن يتنبه العلماء والدعاة والمدرسون الذين يعقدون حلقات العلم في المساجد والبيوت إلى ضرورة الربط بين علوم الفقه وعلوم الحديث، لأن المتخرجين على هؤلاء العلماء والدعاة المدرسين لا يقلون تأثيراً على الناس عن نظرائهم المتخرجين في الجامعات والمدارس الرسمية. بل إن خريجي الحلقات العلمية قد يكونون أشد خطراً من هؤلاء، وإذ كثيرا ما يكتفي الواحد منهم ببعض أطراف ما سمعه من شيخه وينطلق بعد ذلك خطيباً للجمعة، ومفتياً للناس، وقد «يتزبب قبل أن يحصرم» فيصبح شيخاً متبوعاً وليس له من العلم شيء نافع أو قدر كافٍ.

ومعظم من يسمّون«بالدعاة» و«الشيوخ»، من نتاج العمل الإسلامي العام في المساجد والبيوت والزوايا، من هؤلاء الذين فارقوا شيوخهم، قبل أن يستكملوا جمع ما عند هؤلاء من العلم، لأسباب متعددة، وتحولوا، بدورهم، إلى مشايخ لغيرهم... وهكذا يقل العلم، ويقبض العلماء، فيتخذ الناس رؤساء جهالاً: يفتون بغير علم فيضلون ويضلون. وتدارك هذا الوضع الخطير واجب على العلماء العاملين، قام الدكتور القرضاوي ـ في بحثه هذا ـ بالتنبيه إليه ، فجزاه الله خيراً كثيراً ونفع بما كتب، وهدي من بيدهم مقاليد الأمور إلى العمل به.

وفي القسم الثاني، من هذا الباب، حقق الدكتور القرضاوي القول في مسألة رواية الحديث الضعيف في الترغيب والترهيب. ونقل أقوال أئمة المحدثين في شأنها، وجمع بينها جمعاً حسناً بكلام العلاّمة ابن رجب الحنبلي في شرحه لكتاب العلل للترمذي. ومن أهم ما في هذا الموضع من الكتاب تنبيه الدكتور القرضاوي إلى فرض العلماء قديماً وحديثاً أن يُروى الحديث الضعيف في الترغيب والترهيب والرقائق والمواعظ، أو في غيرها من أبواب الحكم وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره. وهو صحيح مذهب المنقول عنهم جواز رواية الضعيف في فضائل الأعمال، كما نقله القرضاوي نفسه عن عدد من العلماء القدماء والمحدثين.

ثم إن الشروط التي اشترطها المجيزون لرواية الضعيف في الترغيب والترهيب لا تراعى كما قال القرضاوي بحق في هذا الموضع وغيره من كتبه ـ فلا حجة في التمسك بها بوصفها عاصماً من توهم الصحة أو ثبوت العمل، أو مشروعيته، أو وجوبه، ومع كون العمل، في التطبيق، يجري على خلافها.

وبعد أن ذكر الدكتور القرضاوي منع العلماء من ذكر الحديث الضعيف بصيغة الجزم: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم). وهو ضابط مهم، بيّن أن الخطباء والمذكرين والمؤلفين الذين يروون الأحاديث الضعيفة لا يلقون بالا لهذا التنبيه.!!(ص76). ثم ذكر أن رواية الضعيف في فضائل الأعمال لا تعني إثبات حكم به (ص78ـ82). وإنما أجازوا روايته للحض «علي عمل صالح ثبت صلاحه بالأدلة الشرعية الضعيف صلاح العمل أو سوءه». ثم استدرك فقال: «ولكن كثيرا من عامة الناس ـ بل من المحدثين أنفسهم ـ لم يفرقوا بين جواز رواية الضعيف بشروطه وإثبات العمل به».(ص79)


وضرب أمثلة لذلك كالاحتفال بيوم عاشوراء، والذبح فيه، واتخاذه عيداً، والاحتفاء بليلة النصف من شعبان بقيام ليلها وصيام نهارها.. ووجود هذه الأمثلة وغيرها في حياة الناس، وصحيح معني كلام العلماء المحققين في المسألة، يدعوان إلى القول بعدم جواز رواية الحديث الضعيف في شيء أصلاً. ففي الصحيح ـ كما قال الدكتور القرضاوي ـ كفاية ومقنع. وسد ذرائع الفساد مقدم على فتح ذرائع المصلحة. والثابت بطريق شرعي معتبره لا يحتاج إلى تقويته بطريق ضعيفة أو مشكوك فيها.

ويؤيد ما نراه ما ذكره الدكتور القرضاوي، بعد أن نقل كلاماً دقيقاً وصادقاً لابن تيمية في معني العمل بالحديث الضعيف(ص80 ـ 81)حيث قال القرضاوي:«ورغم هذا البيان رأينا الكثيرين يثبتون التحديدات والتقديرات بالحديث الضعيف».!!

ولذلك، فإن فائدة بيان العلماء لحقيقة هذه المسألة هي أن نمتنع عن رواية الضعيف أصلاً إلا مع بيان ضعفه، إذ الثابت أن كل تحذيرات العلماء قد ذهبت هباءً فيتعين الوقوف عند الصحيح والحسن، وعدم تجاوزهما إلى الضعيف إلا مبيناً ضعفه لئلا يغتر به أحد.

وقد عنون الدكتور القرضاوي للباب الثالث والأخير، من الكتاب بعنوان: «معالم وضوابط لحسن فهم السنة النبوية» ، وجمع فيه ثمانية أمور لا غنى عن واحد منها لفهم صحيح للسنة النبوية مهما يكن موقع الناظر فيها: فقيهاً، أو داعية، أو واعظاً، أو مدرساً، أو باحثاً، أو مهتماً بغير ذلك من الاهتمامات التي يحتاج في أدائها إلى النظر في السنة النبوية والتزود من معينها.

ففي الضابط الأول بيّن الدكتور القرضاوي ضرورة فهم السنة في ضوء القرآن الكريم.«فالقرآن هو روح الوجود الإسلامي، وأساس بنيانه، وهو بمثابة الدستور الأصلي، الذي ترجع إليه كل القوانين في الإسلام فهو أبوها وموئلها.

والسنة النبوية هي شارحة هذا الدستور ومفصلته، فهي البيان النظري والتطبيق العملي للقرآن، ومهمة الرسول أن يبين للناس ما نزّل إليهم.... ومعنى هذا أن تفهم السنة في ضوء القرآن».(ص93)

وعلى هدي هذه القاعدة بين الدكتور القرضاوي بطلان حديث (الغرانيق) لمنافاته لسياق الآيات التي زعموا أنهن ذكرن فيها، فالآيات من سورة النجم ( 19ـ23 ) تندد بالأصنام وتنكر على عبّادها من دون الله فكيف يدخل فيها مدح الغرانيق ورجاء شفاعتهن؟! وبالقاعدة نفسها أبطل الدكتور القرضاوي الحديث الذي تقول كلماته عن النساء: «شاوروهن وخالفوهن»، فهو حديث مكذوب لمنافاته قول القرآن الكريم:«فإن أرادا فصالاً عن تراضٍ منهما وتشاورٍ فلا جناح عليهما»(البقرة:233)

وانتهي من فهمه لآية الأنعام (141)«وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفاً أكله، والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه، كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده» ـ انتهي من فهمه لهذه الآية، كما سبق له أن فعل في «فقه الزكاة» ـ إلى وجوب الزكاة في كل مزروع تنبته الأرض؛ وإلى ضعف الأحاديث المعارضة لذلك.

وقرر الدكتور القرضاوي في هذا الموضع قاعدة مهمة حيث قال:«من حق المسلم أن يتوقف في أي حديث يري معارضته لمحكم القرآن إذا لم يجد له تأويلاً مستساغاً» (ص96). وبيّن أنه هو نفسه متوقف في معني حديث أبي داود ( الوائدة والموؤدة في النار )لأن الحكم على الموؤدة بالنار يعارض قوله تعالى: وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت  (التكوير:8ـ10). وأنه متوقف في الحديث الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل سأله عن أبيه أين هو: ( إن أبي وأباك في النار ) وقال الدكتور القرضاوي هنا:«لكني أوثر في الأحاديث الصحاح التوقف فيها، دون ردها بإطلاق، خشية أن يكون لها معني لم يفتح عليه بعد»(ص9)

وهذا روع حسن، وإشفاق من القول بغير علم، يحمد لصاحبه. وهو مع ذلك نقل ردّ شيخنا، حجة الإسلام في عصرنا، الشيخ محمد الغزالي لحديث«إن أبي وأباك في النار»، ونقل مناقشة الأِّبي ـ شارح صحيح مسلم ـ لتسليم الإمام النووي بالحديث على إطلاقه، وبنائه حكمين عامين عليه، وانتهاء الأِّبي إلى أنه: إما خبر آحاد فلا يعارض المقطوع به شرعا من عدم استحقاق العذاب إلا بعد إقامة الحجة على المنكر أو الرافض، وإما أنه ـ ومثله من الأحاديث الواردة بعذاب بعض أهل الفترة ـ خاص بهؤلاء لسبب يعلمه الله، وإما أن المستحقين للتعذيب هم الذين أحدثوا أموراً من الضلال والفساد لا يعذرون بها. وضرب القرضاوي لذلك مثلاً أن يكون قد وأد ابنته أو نحوه فما هو معلوم القبح لكل العقلاء. (ص99)

 
ومع أني أحمد التوقف الذي ذهب إليه الدكتور القرضاوي، فإنني لا ألوم من أبدى في هذه الأحاديث رأيه، كالأبِّي وشيخنا الغزالي رحمهما الله، فإنّ التوقف، وإن أراح ضمير صاحبه، وأمانته العلمية، يبقي السائلين وطلاب المعرفة في حيرة من الأمر، لاسيما ونحن نتحدث عن معارضة القرآن نفسه، لا عن معارضة العقل ومدركاته، أو العلم ومكتشفاته.

ولعل الجمع بين الموقفين يكون بإبداء الرأي في الحديث مع التحفظ بأن هذا هو رأي العالم المسؤول حتى وقت الجواب، وقديماً جعل علماؤنا تحفظاً دائماً على كل رأي أبدوه هو قولهم:«والله أعلم»، وهو تحفظ مستصحب دائماً من كل فروع المعرفة الإنسانية، وهو كاف لعذر كل ذي رأي إذا تغيّر بعد ذلك رأيه، أو فتح الله له من أبواب المعرفة ما لم يكن مشرعاً أمامه حين أفتي أو علم أو كتب أو تكلّم.

والواجب، على كل حال، كما بين الدكتور القرضاوي، أن يدقق كل التدقيق في ظن معارضة الحديث الصحيح للقرآن الكريم تجنباً للانزلاق إلى ردّ الحديث الصحيح بالظنون والأوهام.

وقد تناول الدكتور القرضاوي ـ بعد ذلك ـ موضوع جمع الأحاديث الواردة في الموضوع الواحد «بحيث يرد متشابهها إلى محكمها، ويحمل مطلقها على مقيدها، ويفسر عامها بخاصها. وبذلك يتضح المعنى المراد منها، ولا يضرب بعضها ببعض.»)ص103(

وضرب مثلاً لذلك بسوء فهم بعض الأحاديث، ومنها الأحاديث الواردة في النهي عن إثبال الثوب فذكر غلوّ بعض الشباب في أمرها، ورميهم من لم يقصر ثوبه ـ كما يفعلون ـ بقلة الدين ولو كان من العلماء الدعاة.

وبين أن الصواب في هذه القضية يعرف بالنظر في مجموع الأحاديث، وهو أن النهي والوعيد إنما وردا فيمن يفعل ذلك خُيَلاء. ثم قال الدكتور القرضاوي:«إن أمر اللباس يخضع في كيفيته وصورته إلى أعراف الناس وعاداتهم ... والشارع هنا يخفف عن الناس القيود، ولا يتدخل إلا في حدود معينة ليمنع مظاهر الصرف والترف في الظاهر، أو قصد البطر والخيلاء في الباطن...».وهذه قاعدة ينبغي النظر إليها في مجمل الشؤون المبنية على الأعراف والعادات،وفي تفصيلاتها . لأن الأصل في الشرع أن يضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وأن يريد بهم إليسر ولا يريد بهم العسر، وأن لا يجعل عليهم في الدين من حرج. ولذلك كان العرف معتبراً في تقرير الأحكام إلا حيث يصادم نصاً صحيحاً فيعمل النص ويهمل العرف.

وما أحسن ما نقله الدكتور القرضاوي عن الحافظ العراقي:«والخروج على العادة أحياناً يجعل صاحبه مظنة الشهرة، وثياب الشهرة مذمومة في الشرع أيضاً. فالخير في الوسط»(ص108)

ثم عالج الدكتور القرضاوي موضوع الجمع أو الترجيح بين مُخْتَلِفِ الحديث، فالأصل في النصوص الشرعية ألا تتعارض. وشرح هنا القاعدة التي تقول بتقديم الجمع على الترجيح، ومثّل لذلك بأحاديث زيارة النساء للقبور، وأحاديث العزل، وبيّن وجه الجمع بين ما ظاهره التعارض من رواياتها. ثم تناول موضوع النسخ في الحديث وبين موقف العلماء المحققين منه، ومتى يقال بالنسخ ومتى لا يقال به.

وحين بحث الدكتور موضوع فهم الأحاديث في ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها مثّل لذلك بحديث ( أنتم أعلم بأمر دنياكم ) وحديث( أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ) وحديث ( لا تسافر امرأة إلا ومعها محرم ) وحديث ( الأئمة من قريش ) وبيّن السبب الذي ورد فيه كل حديث منها، والعلة التي بني كل حديث عليها، وأن العمل بهذه الأحاديث منوط بهذه العلل، فيدور الحكم مع علته وجودا وعدماً، كما هو مقرر في علم أصول الفقه.

وأيد الدكتور القرضاوي رأيه هذا. بموقف عثمان رضي الله عنه من ضالة الإبل، وبالمقرر عند المحققين من العلماء من تغير الأحكام المنصوصة، إذا كانت مبنية على العرف، متي تغير هذا العرف، ومثل لذلك بأمثلة منها تغير نظام العاقلة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومنها التوسعة على الناس بإخراج زكاة الفطر من أنواع من الأطعمة التي لم يرد بها النص، ومادامت من غالب قوت البلد، وبإخراجها بدءً من أول رمضان في بعض المذاهب، أو من منتصفه في بعضها الآخر، بعد أن كانت في مجتمع المدينة النبوية تخرج صباح يوم العيد، بعد صلاة الصبح وقبل صلاة العيد. ووصف الدكتور القرضاوي إجازة إخراج قيمة زكاة الفطر نقودا بأن فيه رعاية المقصود النص النبوي وتطبيق لروحه، وربما كانت القيمة أوفي. بمهمة الإغناء للفقراء من الطعام. بل قال إن «هذا هو الفقه الحقيقي».(ص135)

وقد قدم الدكتور القرضاوي لبحثه لمسألة فهم الأحاديث على ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها، بما يمكن أن نجله ختاما لعرضنا لهذا الكتاب الجليل من كتبه في خدمة السنة النبوية. قال ـ حفظه الله ـ«لابد لفهم الحديث فهما سليما دقيقا» من معرفة الملابسات التي سيق فيها النص، وجاء بيانا لها وعلاجا لظروفها، حتى يتحدد المراد من الحديث بدقة ولا يتعرض لشطحات الظنون، أو الجري وراء ظاهر غير مقصود». وقال قبل ذلك مباشرة«وهذا يحتاج إلى فقه عميق، ونظر دقيق، ودراسة مستوعبة للنصوص، وإدراك بصير لمقاصد الشريعة, وحقيقة الدين، مع شجاعة أدبية، وقوة نفسية للصدع بالحق وإن خالف ما ألفه الناس وتوارثوه. وليس هذا بالشيء الهين..»(ص125)

والناظر في كتاب: كيف نتعامل مع السنة، يشهد للشيخ القرضاوي ـ إذا أنصف ولم يتعسف ـ بالحظ الوافر من ذلك كله، مع الإحاطة النادرة بأقوال العلماء وآرائهم وتأويلاتهم وأسباب اختلافهم، وهو كتاب لا يجوز أن يفوت عالما، ولا طالب علم، أن ينتفع به ويستفيد منه.


وفي موضوع التمييز بين الوسيلة المتغيرة والهدف الثابت للحديث مثل لذلك بحديث ( الوزن وزن أهل مكة , والمكيال مكيال أهل المدينة) وحديث ( من رمي بسهم في سبيل الله فله كذا وكذا ) وحديث ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأقدروا له ) وبين أن (( من أسباب الخلط والزلل في فهم السنة أن بعض الناس خلطوا بين المقاصد والأهداف الثابتة التي تسعي السنة إلي تحقيقها وبين الوسائل الآنية والبيئية التي تعينها أحيانا للوصول إلي الهدف المنشود , مع أن الذي يتعمق في فهم السنة وأسرارها يتبين له أن المهم هو الهدف , وهو الثابت والدائم, والوسائل قد تتغير بتغير البيئة أو العصر أو العرف أو غير ذلك من المؤثرات ))

(( أن تعيين الحديث الشريف ميزان أهل مكة ومكيال أهل المدينة هو من باب الوسائل القابلة للتغيير بتغير الزمان والمكان والحال وهو ليس أمرا تعبديا يوقف عنده ولا يتجاوزه ))

وفي حديث رؤية الهلال قال (( فإذا وجدت وسيلة أخري أقدر علي تحقيق هدف الحديث وأبعد عن احتمال الخطأ والوهم والكذب في دخول الشهر , وأصبحت هذه الوسيلة ميسورة غير معسورة ولم تعد وسيلة صعبة المنال ولا فوق طاقة الأمة , بعد أن أصبح فيها علماء وخبراء فلكيون وجيولوجيون وفيزيائيون متخصصون علي المستوي العالمي , وبعد أن بلغ العلم البشري مبلغا مكن الإنسان أن يصعد إلي القمر نفسه وينزل علي سطحه ويجوس خلال أرضه ويجلب نماذج من صخوره وأتربته.فلماذا نجمد علي الوسيلة وهي ليست مقصودة لذاتها ونغفل الهدف الذي نشده الحديث؟!))

بقلم الدكتور محمد سليم العوا (الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق